الأب إيليّا متري | Father Elia Mitri

توما الرسول

يكتفي الإزائيّون (متّى، مرقس ولوقا) بذكر توما في قائمة الرسل. أمّا يوحنّا الإنجيليّ، فيذكره في أربعة مواقع. أوّلها في سياق خبر رقاد لعازر (11: 16). وثانيها في الخطاب الوداعيّ (14: 5). وثالثها في ثاني تراءٍ ليسوع أمام تلاميذه بعد فصحه بثمانية أيّام (20: 24-29). وآخرها على شاطئ بحر طبريّة، قَبْلَ ترائي الربّ مرّةً أخرى، حيث كان مجتمعًا مع بطرس ونتنائيل وابني زبدى وتلميذين آخرين (21: 2).

سنحاول، في هذه السطور، أن نتبع آثار الإنجيليّ الرابع، لنستقي من ذكره توما ما يُغنينا.

أولى إطلالة صريحة لتوما الرسول كانت، إذًا، في سياق خبر رقاد لعازر. كان الربّ قد وصل إليه خبر مرض صديقه لعازر. وكشف لتلاميذه جميعًا أنّه قد رقد. وقال لهم: "ولكنّي ذاهب، لأوقظه". ظنّوا أنّه يكلّمهم على رقاد النوم، واستبقوا إعلان ظنّهم بقولهم للربّ: "سينجو". فقال لهم يسوع عندئذٍ علنًا: "قد مات لعازر، ويسرّني، من أجلكم كي تؤمنوا، أنّي لم أكن هناك. فلنمضِ إليه!" (11: 1-15). فقال توما، الذي يقال له التوأم، لسائر التلاميذ: "فلنمضِ نحن أيضًا، لنموت معه". وبقوله هذا، دلّ على أنّ التلاميذ جميعًا كانوا لم يضربوا بعدُ شباكَ إيمانهم في العمق. وهذا نفهمه إذا فهمنا أنّ فصح الربّ هو الذي سينطقهم الإيمان العميق. وعلى هذا، تدعونا كلمات توما إلى أن نرى فيه اندفاعًا وحبًّا للمشاركة الكلّيّة. فالرجل لا يمنع نفسه من أن يذهب إلى الموت! هل هذه المحبّة استمدّها من رؤيته الصداقة التي تجمع ما بين يسوع ولعازر؟ أعلى ما في الأمر أن نقبل مَنْ يصادقهم يسوع أصدقاء لنا.

في إطلالته الثانية، يكرّر توما إبراز ما يعتمر في قلبه وقلوب رفاقه. كان يسوع يكلّمهم، في خطاب وداعيّ تفرّد يوحنّا بتسجيله، على ذهابه إلى أبيه. وقال: "لأعدّ لكم مقامًا... لتكونوا أنتم حيث أنا أكون. أنتم تعرفون الطريق إلى حيث أذهب" (14: 2-4). فقال له توما: "يا ربّ، إنّنا لا نعرف إلى أين تذهب، فكيف نعرف الطريق؟". أوّلاً، لا يليق بنا أن نرى توما، في هذا القول، يقاطع معلّمه. فهذا الخطاب يجري كلّه في شكل حوار. وفي الحوار، يجوز السؤال. وطرح توما سؤاله. لم يفهم (ورفاقه أيضًـا) ما أراده المعلّم. واستوضحه في ما قاله. ولكن، ما الذي لم يفهمه توما تمامًا؟ ما يبدو أنّ لفظة "الطريق" هي التي كانت صعبةً عليه (وعليهم جميعًا). فأوضح يسوع لهم بقوله: "أنا الطريق" (14: 6). وبهذا، أعاد ما قاله أوّلاً. فيسوع أتى، ولبس جسدنا، وسيموت ويقوم ويرسل روحه القدّوس، لنقدر على أن نعود، به، إلى أبيه. هذا هو الطريق القائم في شخصه، أو في فعله الخلاصيّ. وهذا كلّه يبيّن أنّ ما أراده يسوع، بقوله هنا، أنّ عودته إلى الآب لن تقطع العلاقة بينه وبينه تلاميذه (أو كنيسته). لن ينتظروا الأبد، ليكونوا معًا. فالأبد بات هنا في الله، آبًا وابنًا وروحًا قدسًا، الذي جعل مسكنه فينا. خصوصًا، يجب أن نشكر لتوما الرسول هذا الاستفسار الذي جعله، في عينينا، تلميذًا سعى إلى أن يُمدّ إلينا أنّ الله باقٍ فينا أبدًا.

أمّا إطلالته الثالثة، فهي التي تبدو تسكن ضمائرنا، وتختزل ذكره وحدها: توما الذي شكّ في قيامة معلّمه! وهذه الإطلالة تبيّن، بما لا يقبل جدلاً، أنّ توما كان أكثر تطلّبًا من رفاقه: يريد أن يرى، ليؤمن. بلى، التلاميذ كلّهم رأوا، وآمنوا. ولكنّ توما لم يقبل شهادتهم. كاتب الإنجيل الرابع يعرف، أو يريدنا أن نعرف، أنّ قيامة الربّ، حدثًا، تُنقل خبرًا (أي كرازةً). ليس من أحد رأى الربّ لحظة خروجه من قبره. لكنّه أظهر نفسه لتلاميذه، وكلّفهم أن ينقلوا أنّه الحيّ إلى العالم كلّه. كان توما منطلق العالم عندهم! ومن دون أن نحرق مراحل التأمّل في شكّ توما، يجب أن نراه، في شكّه، مفضلاً علينا: أتى الربّ إليهم ثانيةً، وأعطى تلميذه الشاكّ ما أراده. وفضله يعمق في موقعين هنا. في قوله ليسوع: "ربّي وإلهي". وفي قول الربّ له: "لأنّك رأيتني، آمنت. طوبى للذين لم يروا، وآمنوا". لماذا هذان الموقعان؟ لنعي أنّ ما يسكن ضمائرنا يجب أن نحرّر حصره بتوما، ونتعلّم منه أن نبتعد عن كلّ شكّ يؤخّر اعترافنا بيسوع ربًّا وإلهًا. ويجب، تاليًا، أن نرى الربّ يقول لنا ما قاله لتلميذه، أي أنّ الإيمان بالفصح هو الرؤية كلّها.

الإطلالة الأخيرة تُظهر توما قائمًا في وسط التلاميذ (سبعة معه). فيوحنّا الإنجيليّ يورد اسمه، في هذا الموقع، بعد بطرس وقَبْلَ نتنائيل وأربعة تلاميذ آخرين يسمّي منهم اثنين (ولا يخبرنا أين كان الآخرون). هذا المشهد يدلّ على أنّ هذا التلميذ، بعد لقائه بيسوع الحيّ واعترافه به، متّن موقعه بين جماعة الرسل، لا بل بات من الأوائل! هل ذكرُهُ بعد بطرس وقَبْلَ نتنائيل يسمح لنا بأن نُسقط عليه توبة الأوّل وإيمان الثاني الذي لا غشّ فيه (1: 47)؟ يجب أن نفعل. فيوحنّا، الذي رتّب أسماء الرسل هنا، لم يفعل ذلك عفوًا. توما عاد. عاد إلى ما كان عليه. زالت آثار شكّه. عاد الشخص المندفع والحاضر والمعترف. وهذا أهمّيّته القصوى أنّه يسرد جِدّة القيامة بمدًى تفترضه. وإذًا، هذه الإطلالة تقول إنّ غفران الربّ حقيقيّ وواقعيّ وكامل، أي تقول إنّ الربّ هو الذي يصنع تلاميذه جددًا. لا يصلب الربّ أحدًا على خطيئته. يكفي أن يعترف الخاطئ بها، ويتوب عنها. بعد هذا، يعود إلى مطرحه تلميذًا جديدًا، ويرتقي!

لقد علّمنا يوحنّا، في هذه المواقع، أنّ توما أيقونة فصحيّة. هل لهذا تدعونا الكنيسة إليه في هذا الأحد الجديد؟ هذا تقدير لكرم رسول أراد أن يرينا، في كلامه على توما، انعكاس الفصح على الناس.

شارك!
Exit mobile version