هذه المقالات، التي ظهرت على صفحات نشرة "رعيّتي" الصادرة عن أبرشيّة جبيل والبترون وما يليهما (جبل لبنان) للروم الأرثوذكس، تشرح، باقتضاب، الصلاة الربّيّة كما يتلوها المؤمنون في الكنيسة الأرثوذكسيّة. ولقد صدّرناها بمقالتين، الأولى بعنوان: "يا ربّ، علّمنا أن نصلّي"، والثانية "فصلّوا أنتم هذه الصلاة"، وهما، في الواقع، مقدّمتا الصلاة الربّيّة في العهد الجديد. وختمناها بمقالتين، الأولى بعنوان: "صديق نصف الليل"، وهي تبحث في مثل أورده الإنجيليّ لوقا بعد الصلاة الربّيّة مباشرة، ما جعل الكثيرين يعتقدون أنّ معناه يتعلّق بالصلاة. والثانية بعنوان "إخوة يسوع"، وهي توضح علاقة المؤمنين بالله أبيهم، وتكشف القرابة الحقيقيّة التي أرادها الله للناس في التاريخ، فهم جميعًا إخوة يسوع، أو إخوة بعضهم لبعض. وتحلو لنا هذه المقالة الأخيرة أن تكون بمثابة ثمرة للصلاة الربّيّة.
ما سيلاحظه القارئ، في متابعته هذه الصفحات جملةً، أنّ الصلاة الربّيّة صلاة "تختصر الإنجيل كلّه"، أو متطلّبات الحياة المسيحيّة. والحياة المسيحيّة، في عمقها ومداها، حياة المؤمنين الذين يعون أنّ الله أحبّهم "حبًّا جنونيًّا"، ويحاولون، بصدق وجدّيّة كبيرين، أن يبادلوه الحبّ عينه بإخلاص لا يشوبه عيب، ويقبلوه سيّدًا على أقوالهم وتصرّفاتهم وكلّ ما يطمحون إليه في حيّز هذا الوجود. وهذا ممكن حقًّا إن قبلنا نعمته، وأطعناه بصدق كلّيّ. فالله القدّوس لم يقل ما لا يمكن تنفيذه. وكلّ صعوبة أو عثرة تعترض المطيعين يبدّدها إيمانهم بأنّ الله حاضر، ليعضدهم بروحه القدّوس، ويساعدهم، فيهم، على إتمام قصده.
لا يخفى أنّ المؤمنين، الذين يتلو بعضهم اليوم صلوات الكنيسة أو بعضها، لا يدركون، بمعظمهم، أنّ الصلاة الحقيقيّة تهدف إلى أن يعوا جميعًا أنّهم، أوّلاً، أعضاء في جماعة الله أبيهم السماويّ الذي يقيم، بروحه، في قلوبهم. وشأن كلّ صلاة أن تضمّ المصلّين إلى الله أبي الجماعة المفتداة. وهذا تبيّنه الصلاة الربّيّة عينها عندما تطلب من المؤمن، الذي يصلّي وحده في حجرته، أو برفقة المؤمنين أترابه، أن يتلوها بصيغة الجمع للمتكلّم. فيقول: "أبانا"، و"خبزنا الجوهريّ أعطنا"، و"اترك لنا ما علينا كما نترك نحن لمَن لنا عليه"، و"لا تدخلنا في تجربة لكن نجّنا من الشرّير". وهذا دليل ساطع على أنّ الصلاة الربّيّة، وكلّ صلاة، هدفها أن تذكّرنا بأنّنا أعضاء في كنيسة المسيح. فالله ليس إله أفراد مبعثرين، لكنّه إله الجماعة التي افتداها بدم ابنه الوحيد، ليجمعها، ويوحّدها.
هذا يعني أنّ الالتزام الحقيقيّ هو التزام في الجماعة الملتفّة حول الربّ القدّوس والملك. وكلّ فرديّة عيب يشوّه الالتزام. أن يحيا معظم المؤمنين اليوم خارج الجماعة، أي أن يغيبوا عن صلوات الكنيسة وعن اجتماعاتها ونشاطاتها، أمر لا يجوز أن يبقى أو يستمرّ. والمخجل كثيرًا أنّ معظم الغائبين والمهملين يعتبرون أنفسهم "مؤمنين"، ولو كانوا لا يشاركون في حياة كنيستهم، ولا يدعمون شهادتها. هم، بمعظمهم، لا يعرفون، أو لا يريدون أن يعرفوا، أنّ الإيمان لا قيمة له إن كانوا كسالى أو غرباء أو بعيدين أو "متفرّجين"، وأنّهم بذلك يخالفون مشيئة الله، ويشوّهون تدبيره الخلاصيّ. و"مشيئة الله إنّما هي تقديسكم"، كما يقول بولس الرسول في رسالته الأولى إلى كنيسة تسالونيكي (4: 3). وهل من قداسة ممكنة إن بعثرتنا أيّامنا وغرقنا في وحل الأرض؟! أي هل من قداسة إن ابتعدنا عن دفع الروح القدس الذي يحيي التزامنا، وينشّطه، ويعزّز وعي الذين يفهمون أنّ سرّ المسيحيّة الحقّ يكمن في الاندماج الكامل في حياة كنيسة المسيح الحيّ والمحيي؟
معنى ذلك أنّه لا يكفي أن نصلّي الصلاة الربّيّة، أو أن نقرأ صفحات تشرحها، لنفقه معناها، ونبقى على ما نحن عليه من كسل وإهمال وبعد وتغرّب.
بلى، يجب أن نصلّي، وأن نصلّي دائمًا. ولكنّ كلماتنا يجب أن توافق حياتنا والتزامنا. وهذا لا يليق به أن تكون كلماتنا بلا مضمون، أو نصلّي ما لا تصلّيه كنيستنا الأرثوذكسيّة. فهذا أيضًا من علامات الغربة غير المجدية. فالمصالحة الكاملة والدائمة هي قاعدة الصلاة الحقيقيّة. أن نرى الكنيسة الأرثوذكسيّة كلّ الوجود، هو أن نتعهّدها، ونواكب عملها وشهادتها في العالم، ونبذل من أجلها حياتنا كلّها. وعلى هذا الوعي تقوم الصلاة. فهي ليست كلمات نستحليها أو نردّدها فحسب، لكنّها صرخة حياة نبعها هذا الرباط الذي أراده المسيح لنا، لنحيا، ونتقدّم، ويرتفع بنيان الكنيسة.
ثمّ إنّ الصلاة لغة إيمان ومحبّة. فالمؤمنون الذين يحبّون الله، بصدق، هم الذين يكلّمونه دائمًا وباستمرار، أي هم الذين يغذّون إيمانهم ومحبّتهم بجدّيّتهم ومثابرتهم. أن نصلّي يومًا، ونهجر الصلاة أيّامًا وأسابيع، هو استخفاف بوجود الله وحقّه ومحبّته. وكلّ هجر صفعة على وجه الالتزام وهاوية تعيق القداسة. وهو، أيضًا، تفسير لرحمة الله يخالف معناها الحقيقيّ. فالرحمة انعطاف الله على البشر، وليست أن نتهاون بمشيئته أو نستخفّ بها. ولا ننسى أنّ الله يرفض التهاون والاستخفاف، ويدينهما. هو يحبّ الذين يسعون إلى الكمال، ليبلغوا القامة التي أرادها لهم. هذا لا يعني أنّ الله لا يحبّ الضعفاء والذين يسقطون في متاهة هذا العمر الزائل. هؤلاء لهم أن ينعموا بالرحمة، إذا تابوا إليه. وقد ترفعهم توبتهم إلى درجات العلى، ويكونون من الأوّلين. غير أنّ السعي إلى الكمال واجب في كلّ حال. ولا أعني أنّ هذا ممكن بشريًّا من دون نعمة الله. والله وهبنا نعمته في معموديّتنا. ويريدنا أن نحافظ عليها، وننمّيها بالتزام لا يشوبه عيب. وهذا يعني أن نبقى في عينيه أطفالاً، أطفاله. نثق به. نتّكل عليه. نركن إليه، في شدائدنا، وإذا دوّخنا العالم. نقبل تأديبه، لنصحو، ونقوم، ونتجدّد. فالله عوننا، لأنّه أبونا ويريدنا كاملين. ومتى صلّينا يصغي إلينا بفرح، ويساعدنا على أن نقدّم له قلوبنا، أو أن نقبله فيها.
أن نعي أنّ الله أبونا، وأن نحبّه بصدق، من الواجب أن يرافقه أن نحبّ إخوتنا والناس جميعًا. الذي يصلّي، ولا يفتح قلبه للناس، لا يستجيب الله لصلواته. هو يصلّي عبثًا. والمحبّة ليست كلامًا أو شعورًا فحسب، لكنّها، أيضًا، أن نهتمّ بمَن نحبّهم على غير صعيد، ونبذل من أجلهم كلّ "عتيق وجديد". هذا يعني أنّ العلاقة الصحيحة مع الله تمرّ بمحبّة القريب ورعايته. ما يجب أن نذكره، دائمًا، أنّ الربّ اختصر شريعته بهذين البعدين، أي محبّة الله ومحبّة الإخوة والناس جميعًا. فهو لا يرضى أن نحبّه وحده. هذا وجه من أوجه تنازله المذهل. وفي هذا، قال الرسول الحبيب: "إذا قال أحد: "إنّي أحبّ الله" وهو يبغض أخاه، كان كاذبًا، لأنّ الذي لا يحبّ أخاه وهو يراه لا يستطيع أن يحبّ الله وهو لا يراه" (1يوحنّا 4: 20). فالله، الذي يبتغي المؤمن رؤيته في الصلاة، يلاقيه في وجوه إخوته. الإخوة وجه الله إلينا. الصلاة العميقة والصادقة هي التي لا تفرّق بين محبّة الله ومحبّة الناس. الناس هم محكّ صدقنا إذا قصدنا التصاعد نحو الله في الصلاة. وهم أيضًا مرقاتنا إلى وجهه المنوّر. وربّما هذا ما دفع أبانا القدّيس يوحنّا السلّميّ، في كتابه "سلّم الفضائل"، إلى أن يعتبر المحبّة "أعظم من الصلاة"، لأنّ الصلاة، كما يقول: "وصيّة جزئيّة. أمّا المحبّة، فتشمل الفضائل كلّها، ولا تتعارض معها" (المقالة 26/69).
يبقى أن نعرف أنّ الصلاة هدفها أن تبقى قلوبنا تشغلها محبّة الله، أي أن تبقى صلاتنا دائمة. وديمومة الصلاة من أصعب أوجه الالتزام الصادق. فانشغالاتنا كثيرة، وهمومنا كثيرة أيضًا. وقد نبرّر أنفسنا معتقدين أنّ ما نقوم به من أعمال صالحة داخل الكنيسة وخارجها بديل من الصلاة. ولذلك من الواجب أن نعرف، أو أن نذكر دائمًا، أنّ الصلاة صلاة، وأنّ العمل عمل. فقد يصلّي المؤمن خارج أوقات الصلاة، في عمله مثلاً، هذا شرعيّ ومطلوب. ولكن، لا يليق بأحد أن يبدل الصلاة بالعمل أو بأيّ شيء آخر. هذا تشويه للصلاة وكسل يظلم القلب، ويفقده زخمه. والمؤمن شأنه أن يرتفع قلبه إذا صلّى، أي أن يسمح للروح القدس بأن يحمله إلى فوق. فحضور الروح هو الذي ينشئ الصلاة، ويكمّلها. ولذلك، يؤكّد تراثنا أن نفتتح كلّ صلاة باستدعاء الروح القدس. نستدعيه لأنّ كلماتنا، مهما عظمت، تظلّ باهتة، باردة. هو، وحده، بانعطافه علينا، يلهبها، ليرضى بها الله الآب. فلا يليق بأذنَي الآب إلاّ ما يحمله الروح له. والروح لا يصلّي وحده عنّا، لكنّه يحمل صلاتنا، ويردّدها دائمًا بلغة إلهيّة. كذا الصلاة تبقى فرح الله الآب ورضاه. ويساعدنا الروح على أن تبقى قلوبنا منفتحة على متطلّبات الله الذي يريدنا ألاّ نوقف الصلاة، لتتقدّس حياتنا، وتستقيم شهادتنا.
رجائي أن نصالح الكنيسة أمّنا لنستطيع أن ندرك المسيح الذي أدركنا، وتبنّانا لأبيه، لتفرح السماء.
ورجائي أيضًا أن تساعد هذه الصفحات القليلة القارئ ليس على فهم الصلاة الربّيّة فحسب، لكن، أيضًا، على إدراك أنّ الله الآب والابن والروح القدس هو إلهنا الحقيقيّ في مجتمع الكسل والتساهل وتعدّد الآلهة التي يصطنعها الإنسان لنفسه. رجائي أن نحطّم الوثن، وأن نؤمن بأنّ الله الواحد معنا، ليساعدنا، بنعمته، على طاعته ومحبّته في حياتنا، لتسودها مشيئته، ونستعيد صورته فينا، ونتقدّس.
المؤلّف