هذه مقالات ظهرت على صفحات نشرة "رعيّتي" التي تصدرها أبرشيّة جبيل والبترون وما يليهما (جبل لبنان)، للروم الأرثوذكس، ما بين العامين 2009 و2010. كلّها تتأمّل في مواقف إنجيليّة كان لبطرس الرسول نصيب فيها.
أن نتأمّل في مواقف، مرّ بها رسول، لهو أن نتأمّل في ما ينتظره الربّ منّا دائمًا. فبطرس، أحد الاثني عشر، واحد من الذين، بقبولهم أن يربطوا مصيرهم بمصير الربّ، عبّدوا لنا درب أن نتّكل على نعمة الله "التي تكمّل الناقصين"، لنحذو حذوهم. وهذه، إن أردنا أن نقول الأمور كما ينبغي لها أن تقال، قيمة لحياتنا لا تفوقها قيمة.
كلّنا نعلم أنّ معظم الناس في زماننا، أي معظمهم على الإطلاق، يعتبرون أنّ القدّيسين، الذين انتصروا على كثافة الجسد و"الخطيئة التي تحوط بنا بسهولة"، أشخاص "خلقهم الله، وكسر القالب". أو، بكلام يناسب هذه الصفحات، كثيرون يعتبرون أنّ زمان الرسل قد ولّى، أي يهملون الدعوة الوحيدة التي تركها لنا روح الله: أنّنا أتباع يسوع المسيح في العالم. ويبدو أنّ هذا واقع أهل الأرض في غير مكان. هذا لا نريد به إدانة أحد، بل وصف واقع لا يحتمل أن نستمرّ فيه. فالربّ، الذي أتى إلينا بشرًا، اختار تلاميذه، أي بعض أشخاص يشبهوننا، ليكشف لنا أنّ مشيئته الثابتة أن يخلّص الإنسان بالإنسان. اختارهم عاديّين، ونحن نرفض أن نكون عاديّين. اختارهم من العمّال، ونحن كلّ ما نرغب فيه أن نبقى عمّالاً (غي جيلبير، احمل رجاءك وامشِ، صفحة 232). اختارهم جهّالاً ليخزوا الحكماء، ونحن كلّ طموحنا أن نحتكم بحكمة أهل الأرض. اختار بعضهم متزوّجين، وزواجنا تبريرنا، لنرفض أن يختارنا... هذا، عمومًا، واقعنا الذي، مهما لوّنّاه، لا نقدر على أن نخفيه.
هذه الوقائع المرّة، التي تكشف قلوبنا التي يتأكّلها الصدأ، لا يشفينا منها كما أن نذكر أشخاصًا أحبّوا الربّ حتّى النهاية، أشخاصًا مثلنا في كلّ شيء ما عدا أنّهم استحبّوا النور على الظلمة. وبطرس، كما تظهره المواقف التي علّقنا عليها، قيمته العظمى أنّه كشف لمعلّمه، في مسرى إتمامه دعوته، كلّ ما يتحرّك في نفسه، وأنّه، تاليًا، سمح له بأن يشكّله إنسانًا جديدًا. لا يشفينا من مرارتنا وصدئنا سوى هذين الكشف والسماح. فالخطايا، خطايانا، إن لم نقبل أن نسلّط عليها نور الربّ، فستبقى تلحّ، وتعمق، وتفتك بنا حاضرًا ومستقبلاً. قيمة بطرس أنّه علّى، منذ أن اصطاده الربّ على شاطئ بحر الجليل، مشيئة الله فوق كلّ اعتبار. فعبارته الأولى، التي قالها له بعد أن فشل في صيده الشهير: "لكنّي، بناءً على قولك، أُرسل الشباك" (لوقا 5: 5)، هي الكلمة التي حكمت كلّ علاقته بيسوع. بلى، كثيرًا ما اعترض، وجادل، وصرخ، وعنّف. ولكنّه كان يعود إلى رشده دائمًا. يعود إلى عبارته الأولى. يعود، بكلمة وجّهها الربّ إليه، بنظرة منه خاطفة، بإيماءة سريعة. تعلّمَ بطرس، في مسيرة قَبِلَها بملء حرّيّته، أنّ الربّ على حقّ دائمًا. وهذا، في الواقع، يدلّ على قيمة الطاعة في مسرى التربية. فبطرس لم تلده دنياه رسولاً. صار. ارتضى أن يصير. جعله معلّمه أن يرتضي. أقنعه بأن يفعل. وفعل.
السؤال، الذي يطرح ذاته علينا، هو: هل يمكننا أن نرتضي ما ارتضاه بطرس؟
لا ينفعنا، إن أردنا الحقّ، أن نقدّم جوابًا عن هذا السؤال سوى الذي تغلّفه قناعة بأنّ ما جرى مع بطرس، والقدّيسين جميعًا، يريد الربّ أن يجريه معنا. كثيرون بيننا يتمنّون أن يكونوا قد وُلِدوا يوم أتى الربّ إلينا بشرًا، ليتبعوه فورًا! هذا حلم يجاهر به أتراب لنا عديدون. وخطأ هذا الحلم أنّه يحفظ ما جرى، أوّلاً، في خزائن الماضي البعيد. يقطعنا عنه، ويجعلنا كما لو أنّنا نحيا في تاريخ آخر. ويجب أن نصحّح خطأ هذا الحلم باعتبار أنّ الربّ هو سيّد التاريخ الذي لم ينقطع فعله يومًا. فالربّ، بما أنعم علينا به، إنّما باقٍ يدعونا إلى أن نتبعه. ما زال هو نفسُهُ يمشي على طرقات وجودنا ينادينا، بل يرجونا أن نمشي في إثره. لقد مشى بطرس. وخير ما يدلّ عليه هذا المشي أنّه ممكن، ممكن اليوم وكلّ يوم. ممكن لنا ولكلّ إنسان معنا وسيأتي بعدنا. إن كان الربّ "هو هو أمسِ واليوم وإلى الأبد" (عبرانيّين 13: 8)، فكيف لا يكون ممكنًا؟ وأمّا ما يجعل الممكن واقعًا لنا، فإنّما قبولنا إيّاه. هذا ما نسمّيه، في تعليمنا، "المؤازرة". وهذه لا تكمل إن لم نعِ أنّ الربّ، الذي يريدنا كلّيًّا له، ينتظر أن نريده كلّيًّا أيضًا. يكفي أن نعبّر له أنّنا نريده. والربّ كفيل بالباقي. هذا ما يجب أن نؤمن به. هذا ببساطة.
هذه الصفحات، التي أردناها تأمّليّة في وجهِ رسولٍ باقٍ، نرجو أن تسهم في ازدياد علمنا أنّ الله يرغب لنا في أن نتمثّل بِمَنْ جعلتهم رفعتهم أضواء في عالمٍ مظلم. فإنّما الله يريدنا نحن أيضًا، في قبولنا قداسته، أن "نضيء ضياء النيّرات في الكون" (فيلبّي 2: 15).
يبقى أن تُختم هذه الصفحات على هذا الرجاء.
المؤلّف