"أيّها المسيح، قَبْلَ صلبك الكريم، كان الموت مخيفًا للناس.
لكن من بعد آلامك المجيدة، صار الإنسان مخيفًا للموت"
(ذكصا غروب عيد القدّيس الشهيد كليستراتس)
الفصول الإنجيليّة، التي تطلب الكنيسة قراءتها في الفترة الفصحيّة، يجمعها هدف واحد. إنّها تنادينا، ليزداد يقيننا بأنّ المسيح، الذي قام من بين الأموات، إنّما أقامنا معه، لنشهد لقيامته، ونفرح. فالفصح، الذي هو عيد قيامة الربّ، هو عيد قيامتنا، نحن أيضًا، من كلّ موت. هذا هو الهدف الواحد الذي لا يُفصل بين شقّيه.
سنحاول، في هذه السطور، أن نستضيء بما تقدّمه هذه الفصول الفصحيّة. وخير ما يجب أن يستوقفنا، أحدًا تلو أحد، أنّ عيد الفصح هو، تاريخيًّا، العيد الذي كانت تجري، في خدمته (وتحديدًا في خدمة "سبت النور")، معموديّة "الموعوظين"، وهم يهود ووثنيّون آمنوا بالمسيح ربًّا ومخلّصًّا، وتعدّهم الكنيسة، ليدخلوا، بالولادة الجديدة، في عضويّة الكنيسة المنتصرة. فعلى قاعدة هذا الإجراء رُتّبت مواضيع هذه الفترة وما تطلبه من أمور تجعل المعموديّة حيّة فينا دائمًا.
بعد أحد الفصح، خمسة آحاد تتعاقب بمعانيها الأخّاذة: "أحد توما الرسول" (يوحنّا 20: 19- 31)، "أحد حاملات الطيب" (مرقس 15: 43- 16: 8)، "أحد المخلّع" (يوحنّا 5: 1- 15)، "أحد السامريّة" (يوحنّا 4: 5- 42)، و"أحد الأعمى" (يوحنّا 9: 1- 38). وإذا تأمّلنا في هذه النصوص جملةً، يلفتنا، أوّلاً، أنّها، باستثناء أحد حاملات الطيب، مأخوذة كلّها من إنجيل يوحنّا. وهذا أساسه التاريخيّ أنّ الكنيسة كانت تطلب من "الموعوظين" (وأعضائها جميعًا) أن يقرأوا الأناجيل المسمّاة إزائيّة (متّى، مرقس ولوقا) في الأيّام الثلاثة الأولى من الأسبوع العظيم. وبعد إجراء معموديّتهم، أن يتّكئوا على إنجيل يوحنّا الذي "يركّز أكثر من البشائر الثلاث على ألوهيّة السيّد وانتصاره على الموت في الجسد" (المطران جاورجيوس، رعيّتي، 30 نيسان 2006). وتريدهم بهذا، وتريدنا نحن أيضًا، أن نأتي من فكر الربّ إلى العضويّة الكنسيّة، وأن نسلك بموجبه دائمًا، لنبقى "أحياء قاموا من بين الأموات". ويلفتنا، تاليًا، أنّ الفصول ذاتها تتمحور، بمجملها، باستثناء إنجيل أحد حاملات الطيب أيضًا، حول شخص واحد: توما، مخلّع، سامريّة وأعمى. وهذا، في اختيار الكنيسة، سببه المباشر التأكيد أنّ المسيح، الذي هو مخلّص العالم، يريد كلَّ واحدٍ منّا أن يشهد لقيامته المجيدة.
من القواسم المشتركة بين هذه النصوص الإنجيليّة أنّها تقيمنا أمام أشخاص عاديّين تساقطت عليهم أنوار الفصح من دون أن يستحقّوها. فتوما شكّك في قيامة الربّ، ثمّ آمن. والمخلّع والأعمى يُعتبران، في رأي مجتمعهما، من الخطأة المرفوضين إلهيًّا. والسامريّة، في رأي الفكر اليهوديّ الرسميّ، غريبة دنّس أسلافُها أنفسهم بزيجات مختلطة. ولهذه القواسم معنى يجب أن يسكن قلوبنا في هذا التعييد الموصول. فقيامة الربّ هي التي تجعلنا أشخاصًا جددًا، أي غير عاديّين، أي "من أهل بيت الله" (أفسس 2: 19). لا، بل يمكننا أن نلاحظ أنّ الربّ يختار "ما كان مِنْ غير حسب ونسب، وكان محتقرًا" (1كورنثوس 1: 28)، ليجعله قامةً من نور، ويقيمه شاهدًا لملكوته. وهذا يجب أن يعني لنا أنّ المسيحيّ الفصحيّ هو مَنْ يحيا بموجب نعمة الله التي أخذها مجّانًا ومن دون استحقاق، وأنّ عمل الكرازة يخصّ الجميع من دون أيّ تمييز.
ثمّ يمكننا أن نلاحظ أنّ النصوص الثلاثة الأخيرة تذكر الماء ذكرًا لافتًا (بركة بيت حسدا، بئر يعقوب، بركة سلوام)، وهو، أي الماء، رمز للمعموديّة. أمّا النصّان الأوّل والثاني، فيخلوان من ذكر الماء. ولكنّهما لا يخلوان من ذكر المعموديّة. ففي أحد توما، تبدو المعموديّة في شهادة الرسول التي هي شهادة كلّ معمَّد (يقول توما ليسوع: ربّي وإلهي). وأمّا أحد حاملات الطيب، فيصوّر لنا الملاك في القبر "لابسًا حلّة بيضاء". والقبر رمز لجرن المعموديّة، التي هي مشاركة في موت الربّ وقيامته (رومية 6: 3- 11)، والحلّة البيضاء لثياب المعمّدين الجدد. وهذا يبيّن ما أوحينا به أعلاه، أي أنّ هذه الفترة هي فترة تأكيد أنّ للمعمَّد دورًا شهاديًّا.
إلى شهادة توما، مجمل النصوص الإنجيليّة زينتُها الاعتراف بالمسيح سيّدًا وحيدًا على القلب. فيوسف، الذي من الرامة، اجترئ، وطلب من بيلاطس جسد يسوع. والنسوة قبلن تكليف السماء إعلامَ التلاميذ أنّ الربّ قد قام. والمخلّع شهد، أمام اليهود، بأنّ يسوع هو مَنْ أبرأه. والسامريّة تركت جرّتها أمام البئر، وذهبت إلى بني جنسها، لتقول لهم: "تعالوا انظروا إنسانًا قال لي كلّ ما فعلت". والمولود أعمى حاجج مسؤولي قومه بأنّ يسوع هو المسيح. وهذا هو تكليف المعموديّة. فشأن كلّ معمَّد أن يعرف الربّ شخصيًّا، ليشهد له أمام جميع الناس. تلك الشخصيّات الفصحيّة أُعطي كلٌّ منهم أن يرى يسوع، ويحدّثه، ثمّ يحدّث عنه. كلّهم معًا كانت لهم هواجسهم ومشاغلهم. وبعد لقائهم به، صار هو "هاجسهم". غدا شغلهم الشاغل أن ينقلوا خبرتهم الجديدة إلى كلّ مَنْ وُضِعَ على طريقهم. فالشهادة هي أن تقول، أوّلاً، حبّك لله لِمَنْ يحيا معك وإليك. جميل أن تفكّر في البعيدين الذين يحيون في مجاهل الأرض. جميل أن تشتهي أن يعرف إلهَكَ كلُّ مَنْ يتنفّس على هذه البسيطة. ولكنّ الربّ يريد منك أن تساهم، أوّلاً، في إحياء مَنْ هم شركاؤك في حياتك الدنيا: أهلك وأقرباؤك وأصدقاؤك وإخوتك في الرعيّة وزملاؤك في عملك وفي وطنك. كلّ طموح مسيحيّ مبرور هذه قاعدته. وهذا لا يوافقه أيّ شعور بالبطالة. فالمسيحيّ المعمَّد، مهما جارت عليه الأيّام، لا يفكّر في أنّه عاطل من العمل. ثمّة عمل دائم يتعاطاه، ثمّة عمل أسمى من أيّ عمل آخر في الأرض، وهو أن يعلن حبّه لِمَنْ أحبّه أوّلاً. أن يقوله في وقت مقبول وغير مقبول. أن يقلقه الموت المنتشر في محيطه. وأن يقول، في بقعة الموت، لكلّ من يلقاه: إنّ المسيح قد قام. هلمّ نسبقه إلى الجليل، لنراه.
ماذا يعني قول الملاك للنسوة: "اذهبن وقلن لتلاميذه ولبطرس إنّه يسبقكم إلى الجليل. هناك ترونه كما قال لكم" (أحد حاملات الطيب)؟ المعنى العامّ أنّ السيّد وعد تلاميذه أنّه سيلاقيهم، بعد قيامته، في الجليل (مرقس 14: 28). ومن هذا المعنى أنّ وعده بقيامته صادق، وقد تحقّق. ولكن ثمّة معنًى يفترضه هذا المعنى، وهو أنّ السيّد التقى بتلاميذه، أوّل مرّة، في جليل الأمم. من هناك اختارهم. وساروا معه. وهذا يعني أنّ كرازة المعمَّد برنامجها أن يأتي بالناس جميعًا، حتّى الذين أنكروا السيّد كما بطرس، إلى الموقع الذي جعل التلاميذ الأوّلين يربطون مصيرهم بمصير معلّمهم، أي أن "يتركوا كلّ شيء، ويتبعوه" (لوقا 5: 11). هنا، عبارة "كما قال لكم" يجب أن تعني، أيضًا، أنّ مَنْ ندعوهم إلى أن يلتقوا بالسيّد الحيّ والمحيي، سيتكفّل هو بأن يقول لهم كلّ شيء. الكرازة هي، تحديدًا، أن ترى ذاتك جسرًا يطأه الناس، ليصلوا إلى مسيح الله، أن تشير إليه بلغة وبغير لغة. فربّما لا تكون لك لغة طنّانة. يكفي أن تساهم، بنظرة، بهمسة، بإشارة، بتصرّف، في أن يصل الناس إلى مَنْ هو "كلمة الله". هذا، في الواقع، ما قرأناه في أوّل آحاد الصوم التي كانت وظيفتها أن تحملنا إلى الفصح، أي إلى المعموديّة (يوحّنا 1: 44- 51). فهناك، دعا التلاميذ الأوّلون بعضهم بعضًا إلى أن يروا يسوع. الرؤية كانت اللغة. "تعال وانظر"، وهي العبارة التي وجّهها الربّ إلى اثنين من تلاميذ يوحنّا المعمدان، غدت هي كلمة فيلبّس إلى صديقه نثنائيل. وغدت، في آحاد الفصح، كلمة المرأة السامريّة إلى شعبها.
غير أنّ نصوص هذه الفترة تُجمع، بمعظمها، على أنّ الناس قد يرفض بعضهم، أو معظمهم، الشهادة الجديدة. وتشير مجريات بعضها إلى أنّ هذه الشهادة قد تكلّف حاملها اضطهادًا عظيمًا (أن يُخرج من المجمع، كما في إنجيل أحد الأعمى). وهذا، في الواقع، لا يفهمه سوى مَنْ "وَجَدَهُ" مسيحُ الله (إنجيل أحد المخلّع). فقد كتب أنّ "جميع الذين يريدون أن يحيوا حياة التقوى في المسيح يسوع يُضْطَهَدون" (2تيموثاوس 3: 12). إنّها مرارة الدنيا المُرّة. إذ كيف تنقل الله، ويُرفَض؟ هنا، تذكر أنّ "الإيمان ليس من نصيب جميع الناس" (2تسالونيكي 3: 2). تذكره من دون أن تدين أحدًا. تذكره من دون أن تنسى أنّ هذه النصوص لا تذكر أنّ شخصيّاتها، إثر نقلهم شهادتَهم، قد تأثّروا سلبًا بما جرى لهم، أي برفض الناس شهادتَهم. لم يُصبهم أيّ يأس. كانوا مأخوذين بما جرى معهم. وكان هذا الأخذ، عندهم، نتيجة كاملة، نتيجة قادرة، بنعمة الله، على أن تنتصر على كلّ القلوب المعاندة. فأنت، قارئًا، لا بدّ من أن تنتبه إلى أنّ شخصيّات هذه النصوص قبلوا البشرى. إنّ موقعهم فيها، وليس خارجها أو فوقها. هم شهود لما قبلوه. أنت عليك أن تلاحظ افتتانهم بالسيّد والتعزية التي نالوها منه. وتحاول أن تكون من صفّهم. بعض هذه النصوص، كما نصوص كثيرة غيرها، يقيمنا أمام نوعين من الناس: مَنْ هم مع السيّد، وَمَنْ هم ضدّه. والخيار متروك لك، قارئًا أو معيّدًا، لتختار خيار مَنْ معه، وتفرح.
خير خاتمة فصحيّة هو الكلام على الفرح. وهو هديّة السماء لِمَنْ آمنوا بأنّ المسيح الحيّ سيّد على حياتهم، ليحيوا، كَمَنْ خرجوا من جرن المعموديّة الآن، خدّامًا له، ويثبتوا في فرح مقيم.