18فبراير

تاريخُ حبّ

يصدر هذا العدد من مجلّة النور، العدد الأوّل من العام ٢٠٢٠، في ١٥ شباط، في ذكرى مرور خمسين سنةً على إقامةالمطران جورج (خضر) متروبوليتًا على جبيل والبترون وما يليهما (جبل لبنان). قبل نحو سنتَين، استعفى المطران من مهامّ أُلقيت عليه. لم يكمل سنواته المعدودة. سألتُهُ في لقاءٍ جمعَنا: "هل يستعفي مطران من خدمته في كنيستنا؟". أجاب: "لا، بل، إن أثقلت السنواتُ جسدَهُ مثلي، (يستعفي) من مسؤوليّاته الإداريّة". هذا مطران الكلمة الدقيقة الذي لا يعرف أن يرتجل إلاّ في أوان الحبّ. الحبّ منه، الحبّ فقط، دقيق ومرتجل، أي مبذول من دون كيل!

​أكتبُ هذه السطور بعد نزولي من برمّانا، من دار المطرانيّة، من زيارة تغمرني، كلّما أتممتها، بمشاعر متنوّعة. هنا الدار، كانت داري طالبًا يوميًّا لنحو سنتَين، وللسنين التي تلتهما بقيتْ محجّي إلى الكلمة الدقيقة وإلى المحبّة التي توزَّع بدقّة ومن دون كيل. من نعم الله عليك أن تُعطى أن تبقى تشعر بأنّك طالب، طالب "للحقيقة التي في المسيح يسوع". هنا الناس أصدقائي. الصداقة الباقية تقول، في هذه الأرض المضطربة، أشياء مختلفة يجهلها الذين انطبعوا على الانصراف إلى التزييف واعتبار نفوسهم الدنيا كلّها. تقول الوفاء. تقول الأمانة. وتقول إنّك مقبول في غير آن، ومحبوب في غير آن. هنا المدى الذي، كلمّا صعدتَ إليه، يهديك الله، في استراحتك إليه، صعودًا من نوع آخر. إن كنتَ تعلم أنّ الصعود الآخر يستحيل من دون وجه، وجه وكلمة، وجه وكلمة ويدَين قويّتَين مفتوحَتين للضمّ وللإطلاق، فهنا لك الكلمة والوجه ويدان ما زالتا تتقنان المحبّة التي تريدك حرًّا دائمًا.

​لا يُختصر الكبار. لكنّني أجترئ على القول إنّني لا أرى ما يُعبِّرُ عن المطران جورج أوفق من هذا السلّم، سلّم الصعود، الذي لم يجفّ حبري على ذكره كتابةً الآن. الشيخ، الذي رعى الجبل، جبل لبنان، نحو نصف قرن، هو معلّم أنّ حرّيّة الناس تستحيل من دون أن تُسكنهم في صدرك أبدًا، بالكلمة الطيّبة والمحبّة الصادقة. من الفم، من الصدر، أي من بلاغة الحبّ ينطلق الناس في فضاء "حرّيّة أبناء الله".

​سمعتُ أشخاصًا يتكلّمون على المطران جورج مديرًا ببرودة يرونها منطقيّة! أنتظر أن يخدمنا العالمون بتنظيرهم عن تحديد فنّ الإدارة في الكنيسة. لا أريد، في مناسبة كريمة، أن أُغضب أحدًا في سطوري. لكنّني لا أرى مديرًا فعلاً يتقن الأعمال الكنسيّة بلياقة وترتيب إن لم يتقن المحبّة الواثقة التي تحرّر الناس من قيود العقد التي تحبّ أن يبقى الآخرون "أطفالاً في تفكيرهم". لا أعتقد أنّ أحدًا من العالمين يجهل أنّ الكلام الرسوليّ على أن تكون أمور الكنيسة بلياقة وترتيب جاء في خاتمة الإصحاح الرابع عشر من الرسالة الأولى إلى كنيسة كورنثوس. هذه خاتمة، في موقعها، معبّرة لتعليم صريح عن مواهب الروح القدس (الإصحاحات ١٢- ١٤) التي قلبُها النابضُ أن نحبّ (الإصحاح ١٣). أجل، الإدارة أن نحبّ، أي أن نفني أنفسنا في سبيل أن يعظم الآخرون، أو في سبيل أن يحقّقوا المثال الذي أرادهم الله عليه. هذا اعتراف بحقّ الله في الناس، أو بحقّ الناس في الله! ليس من إدارة لا يحرّكها أنّ الله هنا يريد كلاًّ منّا قامةً من مجد!

​ليست الكنيسة مؤسّسةً من دنيا إذًا، بل جماعة عاش المطران جورج من أجل أن يكون كلٌّ مَن فيها ناهضًا في الله. كلّ إنسان مقبول ومدعوّ إلى أن يكون عظيمًا، هذا ليس من إدارة في الكنيسة (أو في العالم) من دونه. من دونه، قلْ أيَّ شيء عن الناس سوى أنّهم صورة الله المدعوّون إلى أن يكونوا على مثاله.

​هناك شيء في هذا الرجل لا تراه في سوى الذين عمّرهم الله لنفسه، لنفسه فقط. هناك أنّك، واثقًا بأنّه كبير، عندما تقعد إليه، يشعرك بأنّك أنت الكبير! حتّى هذه السطور التي أنشأتُها في ذكرى إقامته مطرانًا، تلاحظون أنّني أتكلّم فيها على نفسي أكثر من الكلام عليه. اعتبروها شهادة، شهادةً لا تطلب سوى أن يتمجَّد الله الذي يحبّ أن يتمجَّد في الناس. كيف لك أن ترى نفسك، في لقاء قائم أو عابر، أمامه، أكبر، أفهم، أحلى؟! هل هذا من فعل الكبرياء التي تفسد النفس أو من تأثير المحبّة؟ إن كان هذا متعلّقًا بالمطران جورج، فالجواب عنه هو حبر هذه السطور. المطران جورج رجل لا يعرف سوى أن يحبّ.

​خمسون سنةً مطرانًا. قلتُ استعفى قبل سنتَين من كلّ شيء إلاّ من المحبّة. هذا ما دفعني إلى كتابة هذه السطور إلى هذه المجلّة الغرّاء التي كان هو وبعض صحبه سببًا في ظهورها. أعرف أنّني أردّد ما يمكن أن يكتبه الأنطاكيّون المحبّون جميعهم. لا بأس! هذا ترداد مبرور. ليس هناك أعظم من تاريخٍ يُعرَف بالحبّ!

شارك!

جميع الحقوق محفوظة، 2023
Skip to content