13يناير

بيده المذرى!

            مَنْ رأى يسوع يحمل بيده خشبةً ذات أطراف كالأصابع تُذرَّى بها الحنطة؟ هل هذا تخفيفٌ لإدانة تكلّم الربّ على أنّها آتية علينا قريبًا؟ لعمري، لا! فما قاله يوحنّا المعمدان عن الربّ يسوع، أي "بيده المذرى" (متّى 3: 12)، حقّ كلّه إن فهمنا أنّ الإله الكلمة كلّ شأنه، الآن، أن "يخلّص العالم".

            هل أغيّر مضمون الوحي؟ أيضًا، لعمري لا! فالوحي، أي كلّ الوحي المتعلِّق بدينونة الله، يفترض أن يعي كلّ إنسان، على هذه البسيطة، أنّ الربّ، الذي بيّن أنّه يحبّنا حبًّا شخصيًّا، لا يرضى لنا أن نموت في ظلام القهر والبعد. ليست الدينونة عقاب الله للإنسان، بل عقاب الإنسان لنفسه (طيطس 3: 11). يحكم الإنسان على نفسه متى تعسّف، أي متى مال، في حياته، عن طريق خلاصه الذي هو ربّنا نفسه.

            إذا قرأنا الأناجيل الأربعة بتمعّن، لا يفوتنا أنّ الربّ يسوع كانت يده دائمًا إلى أوجاع الناس، لتصنع معجزاتٍ باهرةً في الأرض (مرقس 6: 2، 5؛ لوقا 4: 40). لقد مدّ يده الحرّة (أو يديه)، ليشفي أبرص (متّى 8: 3؛ مرقس 1: 41؛ لوقا 5: 13)، وحماة بطرس المحمومة (متّى 8: 15؛ مرقس 1: 31)، وليقيم ابنة يائيرس (متّى 9: 25؛ لوقا 8: 54)، وليبصر أعمى في بيت صيدا (مرقس 8: 25) وآخر على الطريق (يوحنّا 9: 6)، ولينتشل بطرس من الغرق (متّى 14: 31)، ولينقذ صبيًّا مصابًا بداء الصرع (مرقس 9: 27)، ويرفع امرأةً منحنية الظَهر (لوقا 13: 13). وبهذه اليد عينها التي جعل الله الآب فيها كلّ شيء (يوحنّا 3: 35، 13: 3)، أشار إلى الذين يسمعون كلمته، وقال فيهم إنّهم أقرباؤه وأهل بيته (متّى 12: 49)، وبارك الأطفال (متّى 19: 13، مرقس 10: 16) وتلاميذه (لوقا 24: 50)، وكتب على الأرض صكّ براءتنا من كلّ خطيئة ثابتة (يوحنّا 8: 1- 11)، وأثبت أنّه قام (وأقامنا) من جحيم الموت (لوقا 24: 40؛ يوحنّا 20: 20).

            ليس يسوع إلهًا مرعبًا جاء، ليميتنا، بل "لتكون لنا الحياة، وتفيض فينا" (يوحنّا 10: 10). ترك مِن يدِهِ كلَّ غضب، وأطلق كلمته وحنانه وعطفه وحبّه. إذا كَرَّمَنا بإعطائنا، في أيّ يوم موافق، أن نقدر على أن نتمتّع برؤيته، فسنرى علامات حبّه (صليبه الذي رفعته خطايانا عليه). يداه، اللتان ثقبتهما المسامير (ورجلاه وجنبه ووجهه المدمّى)، لن يعيّرنا بهما. سيمدّهما، ويلامس بهما وجوهنا بدلالٍ أبويّ، وبهما سيضمّنا إلى صدره كما فعل مع الأطفال الصغار. فنحن أطفاله أيضًا. نحن كلّ الناس، الذين لم يبخل عليهم بأيّ شيء، أجل بأيّ شيء. نحن الذين شفاهم من البرص، والحمّى، والعمى، والغرق في رمال العالم وبحاره القاتلة، والضياع، وغور الوجه في الأرض، ومن كلّ موت تربّص بنا بفعل خطايانا، ونال منّا. أتى إلينا. كان يعرف ما بنا، وأتى. كان يعرف أنّ الموت يُميتنا رعبًا (عبرانيّين 2: 15)، ويدفعنا إلى أن نبقى بعيدين عنه، وأتى. على كلّ طردٍ، قلناه له وجهًا بوجه أو أخفيناه في صدورنا، وعلى كلّ جبن، أتى.

            قال يوحنّا إنّ بيده المذرى. ولكنّ يسوع، الربّ يسوع، كان يعلم أنّه، لو رأينا المذرى بيده، لأتيناه، خوفًا، صاغرين. لم يُردنا عبيدًا. ارتضى أن يتّخذ هو "صورة عبد" (فيلبّي 2: 7)، ليعيدنا إلى بيت أبيه أبناء أحبّاء. لا، لم يُردنا عبيدًا، فنخافه. ترك مِن يديه كلّ غضب! ومدّهما عاريتين، فقيرتين إلى عطفنا وضمِّنا. أدرك أنّ بردنا يقتلنا، وعرض علينا حضنه، ليلفّنا، فندفأ، ونشعر بأنّنا في حمايةِ إلهٍ لا يقوى عليه شيء. أرادنا قادرين على أن نواجه أنفسنا والعالم كلّه. باركنا. وأطلقنا. وثق بنا. وحمّلنا مسؤوليّة مدّ الخلاص إلى العالم. قال لنا أن نذهب إلى العالم أجمع، لنخبره عن طراوة يديه، وفقر يديه، وقدرة يديه.

            بلى، صنع يسوع، مرّةً، في هيكل أورشليم، مِجْلَدًا من حبال، وحمله في يده. ولكنّ هذا لا يغيّر أنّه يحبّنا. لنراجع ما جرى! لقد وجد يسوع، في الهيكل، "باعة البقر والغنم والحمام والصيارفة جالسين". "وطردهم جميعًا من الهيكل مع الغنم والبقر، ونثر دراهم الصيارفة، وقلب طاولاتهم" (يوحنّا 2: 13- 16). أراد بيت أبيه نقيًّا. رأى المكلَّفين نشر الحقّ غارقين في تشويه أنّ الله يحبّ العالم. لم يحتمل أن يرى "بيت أبيه بيت تجارة". ولكنّ القصّة لم تنتهِ هنا. أتاه اليهود، وسألوه: "أيّ آية ترينا حتّى تعمل هذه الأعمال؟" (الآية الـ17). أجابهم: "أنقضوا هذا الهيكل، أُقمه في ثلاثة أيّام!" (الآية الـ18). و"كان يعني هيكل جسده" (الآية الـ21). حتّى هنا، في أوان إطلاق الربّ غيرته النبويّة، كشف أنّه الإله الآتي، ليخلّص العالم. رأى شعبَهُ غافلاً، يهمّه إله آخر (المال في سياقنا)، وصدع بالحقّ أنّه إله فقير يموت عن شعبه. حيث سطع صوته النبويّ، كان موته رفيقًا. لا يعرف يسوع إلهنا سوى أن يموت عنّا! غيرته على بيت أبيه كانت مناسبةً قال فيها إنّ هيكله سيُنقض! لم يقل، هنا، إنّني من أجل هذا أتيت. ولكنّنا يجب أن نسمعه يقولها هي هي. هل يمكننا أن نرى في مِجْلَدِهِ ارتقابًا للمِجْلَد الذي سيُجلد به (يوحنّا 19: 1)؟ يجب أن نرى! يجب أن نرى يسوع يحمل خطايانا على عاتقه، ويستبق تنازله إلى أن يُجلد! يجب أن نراه واعيًا ما سيحدث له. هل، بما نقوله، نخفي كلّ إشارة إلى أنّه الإله الذي سيدين العالم في يومه؟ لا، لا! لكنّنا لا نقفز فوق حكمة ترتيب الأحداث! الآن، أي في هذا الزمان، لا يحمل يسوع في يده سوى أن يموت عنّا، لربّما نتّعظ، فنحيا أبدًا.

            هذا الإله العجيب ليست إرادته، اليوم، أن يفصلنا عنه، كما يفصل المزارع ما بين القمح والتبن. يبقى ألاّ ننفصل نحن عنه في حياة مخلَّعة، ونطيع الأنبياء الذين يريدوننا، الآن، أن نحبّه فعلاً!

شارك!

جميع الحقوق محفوظة، 2023
Skip to content