الأب إيليّا متري | Father Elia Mitri

بطرس الرسول، ضوء من خبر الصيد العجيب

                دائمًا، يدهشني ما فعله بطرس في خبر الصيد العجيب (لوقا 5: 1- 11).

                كان مع بعض رفقته يصطادون في بحيرة جنّاسرت. وتعبوا الليل كلّه من دون أن يُصيبوا شيئًا. وكان يسوع هناك. دائمًا، يسوع هنا. "فرأى سفينتين راسيتين عند الشاطئ، وقد نزل منهما الصيّادون يغسلون الشباك". فركب إحداهما، وكانت لسمعان، وأخذ يعلّم جميع الذين كانوا قد "ازدحموا عليه لسماع كلمة الله". ولمّا فرغ من كلامه، التفت إلى سمعان بطرس، وأمره بأن يعود إلى عمق البحيرة التي ردّته خائبًا. وفعل بطرس. ربّما أسره ما سمعه من فم المعلّم، فيما كان يخاطب الجمع، ففعل من دون أن يجادل. بلى، شرح موقفه، ولكن بإيجاز. لم يُطل. قال: تعبنا، وفشلنا. ثمّ استدرك، وقال إنّه، كُرمى لما خرج من فم معلّمه، سيدخل البحيرة من جديد. ودوّخه الصيد الذي أصابه هو وشركاؤه. فأتى، و"ارتمى عند ركبتي يسوع، وقال: يا ربّ، تباعد عنّي، إنّي رجل خاطئ". أدهشه مجدٌ أُعلن له عبر طاعته كلمةً نفذت إلى أعماق البحيرة. فأطاع ورفقته دعوة المعلّم، و"تركوا كلّ شيء، وتبعوه".

                دائمًا، يدهشني ما فعله بطرس في خبر الصيد العجيب.

                لا بدّ من أنّه عرف أنّ مَنْ أمره بأن يعود إلى البحر لم يتّخذ صيد السمك مهنة، بل عمل في النجارة مع يوسف خطيب أمّه. لكنّه رمى معرفته جانبًا. ما من شيء، في الخبر، يدلّ على أنّه أطاع، ليختبر قدرة معلّمه. فالخبر تحكمه البراءة، البراءة الكلّيّة. كيف أدرك أنّ الطاعة واجبة حتّى حين يبدو يسوع كما لو أنّه يتدخّل في ما لا يعنيه؟! هذا سرّ الأطهار الذين حكموا علاقتهم بالسيّد على أساس أنّه على حقّ دائمًا. عرّى بطرس عقله وكلّ ما يعرفه، وأطاع. فأن نطيع الله، أمرٌ لا يقوم إلاّ على أن نعرّي العقل.

                دائمًا، يدهشني ما فعله بطرس في ذلك الخبر.

                "ارتمى عند ركبتي يسوع". وطلب إليه أن يتباعد عنه. لم يتحمّل ما سكن أعماقه فجأةً. رأى نفسه على حقيقتها. أدرك أنّه لا يستحقّ أن يتبع المعلّم. فهم، منذ اللحظة الأولى، أنّه لا ينفع شيئًا. كيف عرف أنّ الربّ لا يوافقه أن يأتي وراءه سوى الذين يدركون، في أعماقهم، أنّهم لا ينفعون شيئًا؟ عرف، فسجد. عرف أنّ علاقته بالربّ إنّما هي، في جوهرها، سجود موصول واستدرار رحمة. لقد اصطاد بطرس "من السمك شيئًا كثيرًا جدًّا". وأدرك، فيما فعل، أنّه أمام إله تنتهي الدنيا عند قدميه. عاد لا يحتاج إلى أن يصغي إلى آخر، إلى أيّ آخر. عاد لا يعوزه أن ينظر إلى البعيد، إلى أيّ أفق بعيد. بات يكفيه أن يخفض رأسه، حتّى يتكشّف سبيل خلاصه. فخلاصه أمامه. خلاصنا بات هنا.

                "ارتمى عند ركبتي يسوع"، ونطق ببلاغة. كيف فهم أنّ البلاغة مستحيلة وقوفًا؟ قَبْلَ أن يعود إلى البحيرة، لا بدّ من أنّ بطرس كلّم المعلّم وقوفًا. وأنهى وقوفه. جعل كلّ شيء وراءه. رمى ماضيه وأشواقه وطموحاته. و"امتدّ إلى ما (مَنْ) هو قدّام". بيَّن أنّه بات لا يريد شيئًا من هذه الدنيا سوى أن يبقى أمام قدمي معلّم نفذت كلمته إلى أعماقه كما رآها تنفذ إلى أعماق البحيرة. ونبعت بلاغته من سجدته. لمع، في قلبه، أنّ البلاغة إنّما يشكّلها السجود أمام قدمي إله خُلقت أذناه، ليسمع وقعهما، وعيناه، لتتسمّرا أمامهما، وفمه، لينهل من معينهما الغنى كلّه. قال له: "تباعد عنّي". لم يقصد أن يطرده. رأى أنّه لا يستطيع أن يحتمل سطوع المجد الإلهيّ. فصرخ: "إنّي رجل خاطئ". أنا، أنا وحدي. أنا، لا أحد سواي. أنا الخاطئ. سمع يسوع اعتراف الساجد أمامه، وطهّره بحميم الرحمة، من فوق، من فمه.

                دائمًا، يدهشني ما فعله بطرس.

                ترك ورفقته كلّ شيء، وتبعوا المعلّم. كان مصيره مرتبطًا برزقٍ يأتيه من صيده، من بحيرة وسفينة وشباك. وترك كلّ شيء. "حَسِب كلّ شيء نفاية". وأخذه، كلّيًّا، أن يربط مصيره بمصير شخص ما من أمر يدلّ على أنّه يملك شيئًا في هذه الدنيا، ولا أيّ شيء. فالمعلّم، لا مال عنده، ولا منزل، ولا "ما يسند إليه رأسه". إنّه فقير كلّيًّا. إنّه الفقير إلينا، إلى حبّنا. اختار بطرس فقر المعلّم الذي صحّح فشله بكلمة واحدة. هل ذكر أنّ الله سلّط الإنسان على كلّ ما في البحر والجوّ والأرض؟ هل رأى، في شخص يسوع، الإله الخالق؟ كلّ ما في الخبر يدلّ على ذلك، ولا سيّما ذلك السجود الذي كان له نوعًا من كشف.

               لقد انفرد لوقا، كاتب هذا الخبر، عن رفاقه الإنجيليّين، بذكره أنّ بطرس ورفقته كانوا على صلةٍ بالمعلّم قَبْلَ أن يتخلّوا عن كلّ شيء، ويتبعوه. أراد، في هذا التأخير المقصود، أن يبيّن أنّهم لم يتبعوا المعلّم بالمصادفة. بيَّن أنّهم اختبروا قدرة مَنْ غيّر لهم مجرى حياتهم. "ستكون بعد اليوم للناس صيّادًا"، قال يسوع لبطرس. وقصد أنّني لا أريدك، أنت ورفقتك، من أجل أنفسكم. فأنتم لستم لأنفسكم بعدُ. أنتم لي، لي وحدي. فأنا اخترتكم، لتخدموا كلمتي في عالمٍ فقرُهُ أنّه لا يعرف غنى الكلمة. ورضخوا. ودخلوا في مغامرة الخدمة.

                دائمًا، يدهشني بطرس. يدهشني، ويبكيني. فأنّى لي ما جرى في تلك البحيرة؟ أشكوك، يا ربيّ، نفسي. تعال إليَّ. وخذني إلى أيّ بحيرة تريد. وارمِ شباك رحمتك عليَّ. وعلّمني، ما حييتُ، أن أسجد أمام قدميك، وأكلّمك بجرأة مَنْ يدرك أنّه لا يستحقّ أن يكون معك. فما نفع حياتي إن لم تغدُ أنت، وحدك، حياتي.

شارك!
Exit mobile version