هذه سطور أرسلت إلى الطبع فيما السيّدان المطرانان بولس يازجي ويوحنّا إبراهيم ما زالا مخطوفين. أرجو أن تخرج إلى الضوء بعد خروجهما.
كان عليه أن يساعد قومًا على أن يذكروا فعل الخير. بلاده تضربها المساوئ من غير جهة، وتمرّ في ليل بهيم. كثيرون من بني جلدته رقدوا، وكثيرون هُجّروا، وكثيرون يتربّص بهم الموت على غير باب. وفي ليل لا تعرف متى ينهيه ضوء الصباح، تعظم دعوتك إلى أن تُذكّر بفعل الخير. هذا، إن سُمع صوتك. فأنت، أيًّا كنت، من أهل بلادك، مهدّد أيضًا. مثلك مثلهم. ربّما يزيّن لك أنّ خدمتك البيضاء تُبعد عنك شرَّ أفعالهم الصفراء. ربّما تعلّي أنّ الناس ما زالوا على طراوة أجدادهم. أقول ربّما. أمّا ما لا يُرجّح بل يؤكّد، فهو أنّ ما فيك من رغبة شديدة في أن يبقى للخير مكان في الأرض، يأتي، كلّيًّا، من إيمانك بالله الحيّ. إن أقامك أسقفًا، فلأنّه رأى فيك، بوضوح استطابه، أنّك قادر على أن تخدم مجده وكلمته وشعبه.
استبق الضوء، وقام. هذا شأن عمّال الخير، ينهضون، ليوقظوا الضوء! قام. خرج. ولمّا يعد.
قالوا، على عادة ما يجري في بلاده اليوم، (قالوا) إنّ قومًا مجهولين قد اختطفوه!
ثمّ بات للمجهول اسم! وانتشر الاسم. هل هو اسم شخص موجود (أو أشخاص موجودين) فعلاً؟ هذا ما يُقال. أمّا الإنسان، واحدًا أو مجموعة، فليكون له اسم ووجود، يجب أن يكون له وجه!
وصل إلينا الخبر عبر وسائل الإعلام. يا لهذا الخبر! يا لهذه النازلة على المستعجلين السلام!
اختفى يومًا ثمّ آخر. أي بعد يومين على اختطافه، كنّا في الكنيسة نقيم صلاة النوم الكبرى. وسمعنا قرع الجرس. كان قرعَ فرح. نظرت حولي. لم أفهم مَن سمح بأن يقرع الجرس فيما لمّا نُنهِ الصلاة. هذا أمر لا يُعمل من دون إذن، دون سبب وجيه. ناديت أخًا يُعاون في الكنيسة، وسألته أن يرى ما الأمر، مَن الذي يقرع الجرس! وأتاني جوابًا أنّ رجلاً، يقطن في حيّنا، سمع، على وسيلة إعلاميّة أيضًا، أنّه "أُفرج عن المطرانين". خبر يستحقّ أن تقرع له أجراس الأرض كلّها. خبر يشبه بداءة الصلاة ونهاية الصلاة. وإذًا، خرج! لم أعلن الخبر. لكنّه مشى بين الإخوة كما لو أنّه "قطعة صلاة" تلاها قارئ معيَّن.
أمّا خبر الإفراج، فكان كذبة، كذبةً رخيصة. هذا من طبيعة الحروب التي لا تعرف مَن الذي يقف وراءها فعلاً. تعرف بعض أدواتها، أو ربّما معظم أدواتها. ولكنّك لا يمكن أن تعرف مَن الذي يحرّكها. ألم تسمَّ الحرب في لبنان: "حرب الآخرين على أرضنا"؟ وإلى هذا اليوم، لم يُعرف مَن هم هؤلاء الآخرون؟!
لِمَ يُخطف أناس يعملون الخير في الأرض؟ لِمَ يُحجب صوتهم، وجههم، يومًا وأيّامًا؟
قال يسوع: "إن كانوا اضطهدوني، فسيضطهدونكم أنتم أيضًا" (يوحنّا 15: 10).
هذه الآية، المؤلمة والمعزّية بآن، لا يمكن فهمها إلاّ على قاعدة أنّ المضطهَد، في غير زمان ومكان، هو يسوع نفسه، يسوع وحده. مَن أنا، أو أنت؟ مَن نكون نحن جميعنا؟ على مَن نشكّل خطرًا؟ ثمّة واحد قيل فيه "خير لنا أن يموت إنسان واحد عن الشعب، ولا تهلك الأمّة كلّها" (يوحنّا 11: 50). هذا الإنسان، الذي اسمه يسوع، حسب قاتلوه أنّهم، إن قضوا عليه، فسيقضون على ذكره، وينقذون أمّتهم. هذا، أمس واليوم وإلى الأبد، ما من مضطهَد في الأرض سواه. وتاليًا، أنت، إن رُئيت أنّه رمى وجهه عليك، فانتظر أن يُضطهَد هو فيك أيضًا! انتظر أن يُسعى إلى أن يقضى على اسمك (اسمه) وعلى وجهك (وجهه).
إن أحببت يسوع حقًّا، يرمي عليك وجهه. إن أحببته، يكون لك اسم ووجه. في هذا العالم، الناس أنواع. نوع له اسم من دون وجه. ونوع آخر له اسم ووجه. نوع يخفي وجهه، ويسعى إلى أن يخفي كلّ وجه. ونوع آخر يفتح وجهه على كلّ وجه، نوع يضرب للآخرين موعدًا دائمًا في ضوء الوجه.
أين هما؟ إن سألت عنه بقولك: أين هما؟، فربّما تخدعك الأسماء! ألم تُخدَع قَبْلاً؟ أنت، مسيحيًّا، يجب أن تسأل... أمام ضجيج الخطايا، الصمت خطيئة. فأنت، على امتهانك حياة البرّ، لا يليق بك أن تنطلي عليك الخدع دائمًا، أو تأكل لك لسانك. فأنت لا تكون مسيحيًّا حقًّا إن لم تنادِ بالحقّ، وتناضل في سبيل إحقاقه. الذين يخطفون بعض قومك، أو سواهم، لا يرضى الله عن عملهم. هذا، وإن كان لهم هم فيه رأي آخر، قول لا يليق بك أن تخفيه في أحشائك. شأنك أن تصيح في وجه العالم أنّ مَن يخفي إنسانًا عن أحبّائه، يتجاوز إرادة الله الذي لا يخفى عنه أيّ أمر. مَن أنت، لتخفي إنسانًا نظيرك؟ إلى أيّ شرع تستند؟ ألم يقل لك أبوك وأمّك، مرّةً ومرارًا، إنّهما يحبّانك؟ ألا تعرف أنّ لسواك مَن يحبّونه أيضًا؟ تُرى، لِمَ تجرح المحبّة عمدًا؟ كيف تنام فيما يأكل سواك القلق؟ على أيّ سرير تغفو؟ وهل فعلاً، إن غفوت، تنام؟!
سألني ابني فيما كان يتابع خبر خطف السيّدين المطرانين في سورية: "في أيّ شرع يُتعدّى على إنسان أعزل؟". لم أقبل سؤاله، بل بدلته بـ: "ما معنى أن يُتعدّى على إنسان لا ينادي بسوى عمل الخير؟". حرّك منه سؤالي. فهم من نفسه أنّ هذا تعدٍّ على حقّ الله، بل على الله نفسه. ثمّ أعلن فهمه.
كان المطرانان بولس (يازجي) ويوحنّا (إبراهيم) يعلمان أنّ شأنهما الأعلى، في دعوتهما إلى الخدمة الأسقفيّة، أن يحاربا الخطيئة أينما ظهرت. السلاح، الذي وضعه الله في يديهما، هو المحبّة. هذه لغة العهد الجديد الذي رسم فيها ربّنا يسوع نجاة الكون في هذه الحياة وفي الآخرة. هذه لا بدّ من أنّ المطرانين مشغولان في زرعها حيث هما. هذه نرجو أن يفتحا بها، لهما ولكلّ مخطوف، بابًا إلى الضوء.