25سبتمبر

- الويل لكم إذا مدحكم جميع الناس -

            يأتي هذا الويل في سياق عظة الربّ الكبرى التي سجّلها لوقا في إنجيله (6: 26). والويل، في الواقع، يختم ويلات أربعة أراد الربّ، بها، أن يوازي بينها وبين تطويبات ذكرها توًّا قبلها (6: 20- 26). ولا يرى المفسّرون، عمومًا، أنّ المقصود، بهذه الويلات جملةً، لعنات، أو أحكام لا رجوع عنها، بل رثاء لا يخلو من تهديد، أي دعوة جدّيّة إلى التوبة ودوام الوعي.

            مَن قرأ خطب الربّ المثبتة في العهد الجديد، لا يشكّ في أنّ تعليمه الحيّ يحمل، في الآن عينه، خلاصًا أبديًّا وتهديدًا أبديًّا. فالربّ، رحمةً وحبًّا، أراد أن يعرف الناس، في كلّ زمان ومكان، أنّ ما يقوله هو آخر قول يقوله الله، وأنّهم هم الذين يقرّرون، بطاعتهم أو عصيانهم، حالهم الحاضرة وحالهم الأخيرة.

            لن نبحث في جملة الويلات التي تذكرها العظة. فما يعنينا، الآن، هو هذا الويل الأخير الذي يعرف شهود الربّ المخلصون حقّه وواقعيّته.

            يوجّه الربّ يسوع هذا الويل إلى تلاميذه الأوّلين وإلى الناس جميعًا في آنٍ واحد. والآية، التي تقول الويل، تستند خاتمتها إلى ما فعله "آباؤهم بالأنبياء الكذّابين"، أي إلى الشهادة الغريبة التي كانت تشوّه حقّ الله، ويرتضيها المخالفون. وهذا يكشف، بدقّة واقعيّة، معنى الويل. فالربّ، بقوله، إنّما يؤكّد أنّ المديح، الذي تنطقه أفواه مغرضة، لا يمكن أن يكون إلاّ تهليلاً للشهادة المزوّرة. فالناس يصعب عليهم أن يقبلوا الحقّ جميعًا. لا لأنّ ذلك مستحيل عليهم، أو غير معطى، بل لأنّ الخبرة تقول ذلك، أو تؤكّده. وإذا كان هذا ما حصل قديمًا، فالربّ لا يستبعد حصوله اليوم وغدًا.

            الذين يعرفون حيل الشيطان، لا يشكّون في أنّ هذا الويل يتضمّن تحذيرًا من حسد الشرّير وشروره. فالناس، عادةً، لا يمتدحون الشهادة المزوّرة إلاّ بعد أن يكون إبليس قد غلبهم بإغرائه المميت، وحطّمهم، وقطّعهم إربًا. لست بهذا أوحي بأنّ الشرّ، في الدنيا، سببه الوحيد أنّ الشيطان ما زال يسيطر، بوهمه، على المزوِّرين، أو محبّي التزوير، ويبذل قُصارى مجهوده، لكي يمنعهم من تجديد حياتهم بالله. فهذا لا يمكن أن يتمّ حقًّا من دون أن يرتضيه البشر بحرّيّتهم.

            ثمّ لا بدّ من أن نعرف أنّ الربّ، بإطلاقه هذا الويل، لا يرفض المديح رفضًا كلّيًّا. فهو قال: "الويل لكم إذا مدحكم جميع الناس"، ولم يقل: الويل لكم إن قال بعضهم فيكم كلامًا راضيًا. وهذا أكّده آباؤنا المعظّمون بقولهم إنّ الحقّ، متى ارتسم على الوجوه المطيعة، سيغبّطه أحبّاؤه (المغبوط أغسطينوس). غير أنّ الحقّ الكامل يطلب التذكير بخطر كلّ مديح، ولا سيّما على أحبّاء الله الملتزمين دقّة الشهادة في الأرض. فـ"الواقف" قد يسقط بمديح مغرّر، أي ربّما يغرّه كلام الناس فيه، ولو كانت دوافعهم بريئة، أو صحيحة. ولذلك أمر القدّيس باسيليوس الكبير المؤمنين بأن يبتعدوا عن كلّ مديح، ودعاهم إلى أن يصمّوا آذانهم عن كلّ ما يجعلهم قائمين في أعين الآخرين، وذلك خوفًا من التغرير، أو السقوط. أي خوفًا من قبول الكلام الذي يلغي الله مصدرًا لكلّ خير في هذا الوجود.

            إن كان هذا الويل ينبّهنا إلى شرّ المديح المشوّه، فربّ أحد يسأل إن كان هو عينه يلزمنا بأن نفرح بانتقاد الناس لنا، أو بافتراءاتهم. والجواب يعوزه، أوّلاً، أن نذكر ما قاله الربّ في التطويبة، التي توازي هذا الويل، أي: "طوبى لكم إذا أبغضكم الناس ورذلوكم وشتموا اسمكم ونبذوه على أنّه عار (أو: "وافتروا عليكم كلّ كذب"، كما جاء في متّى) من أجل ابن الإنسان. افرحوا في ذلك اليوم واهتزّوا طربًا، فها إنّ أجركم في السماء عظيم، فهكذا فعل آباؤهم بالأنبياء" (لوقا 6: 22؛ أنظر: متّى 5: 11 و12). وهذا القول الإلهيّ يسمح لنا بأن نجيب عن السؤال المفترض أحيانًا بنعم، وأحيانًا بلا. نجيب بنعم إن كانت الشتائم والاضطهادات والافتراءات تصيبنا بسبب إيماننا بالربّ والتزامنا شهادته في الأرض. وبلا إذا كانت تصيبنا بسبب أنّنا نشابه أبناء هذا الدهر في سلوك مقيت. فمَن أصابته أخطاء يجاريها، لا ينتظر مكافأة من الله. أمّا مَن عاش مخلصًا لله وافتري عليه "من أجل ابن الإنسان" كلّ كذب، فله أن يفرح بما يوحي بصدق حبّه، أو أن ينتظر الفرح الأخير. وهذا يعطينا رجاؤنا أن ننتظره إن اخترنا صدق الشهادة نهج حياة.

            ما يعرفه قرّاء العهد الجديد أنّ الربّ نفسه طاولته افتراءات بغيضة. فثمّة مَن قال فيه" إنّه ضائع الرشد" (مرقس 3: 21). و"إنّه ببعل زبول سيّد الشياطين يطرد الشياطين" (لوقا 11: 15؛ يوحنّا 8: 52). وثمّة مَن راقبوه "ومرادهم أن يشكوه" (مرقس 3: 2). وثمّة مَن كانوا يطلبون شهادة زور عليه، "ليحكموا عليه بالموت" (متّى 26: 59). والمعروف، أيضًا، أنّ رسله الأطهار رميت عليهم، زورًا، اتّهامات شتّى (2كورنثوس 6: 4- 10). وهذا، الذي حصل للقدّيسين في كلّ جيل، هو تعزية دائمة للمخلصين، إن افتكروا بأنّ الربّ وأتباعه قيلت فيهم، أبرياء، أقوال مغرضة. هذا لا يُقصد به أنّ المخلصين يشرّع لهم إخلاصهم أن يمقتوا المفترين، أو يعطيهم الحقّ أن يعاملوهم بالمثل. فهم تكفيهم تعزية أنّ شرور المغرضين جعلتهم يشبهون الربّ وأحبّاءه. ولهم أن يسامحوا دائمًا، أو أن يتعلّموا من الخبرة الطاهرة التي تطلب من الملتزمين أن يحسبوا أنفسهم شركاء في كلّ سقطة تراود غيرهم، أو تصيب غيرهم، ليتجنّبوا الإدانة وإهمال ما يعتريهم من أخطاء شخصيّة. وإذا لم يقدروا على هذه المشاركة الراضية، فعلى الأقلّ ألاّ يشعروا الساقطين بالخزي (القدّيس إسحق السوريّ). هذا ما تطلبه قداسة الله حتّى لا نسقط في مخالفة كريهة، أو نظلم، حيث لا ينفع الظلم. ومَن رآك معه في سقطات أنت براء منها، فقد تردعه رؤيته عن رميك بعيوب ليست فيك، فيصطلح، وينجو. هذا رجاؤك. وهذا نجاتك إن ثبتّ عليه.

            لا تخفى على عاقل صعوبة المكتوب. لكنّ المؤمنين بأنّ الله هو محرّر شعبه من كلّ عيب (أنظر: يوحنّا 8: 36)، لا يصعب عليهم شيء. أجل، ثمّة أناس في الأرض يهوون الكذب، ويكرهون الحقّ. وأجل، ثمّة مَن يحبّ أن يتسلّى بغيره. وأجل، سيبقى هؤلاء وأولئك جميعًا موجودين، في الدنيا، إلى أن يختم الله زمان الناس. غير أنّ الأحرار الحقيقيّين لا يقيمون وزنًا للشرّ، ولا يخضعون لحكمه، أي لا يردّون أذًى بأذًى. الأحرار ليسوا فاعلي شرّ، بل فاعلو خير. هم، لكونهم أحرارًا، يؤمنون بأنّ الله وضعهم على طريق الناس، ليرفعوا الذين تعذّبهم شرورهم إلى الله المحرّر. وهذا يتمّ بالكلمة والسلوك الراضيين. فالكلمة المُحياة برضًا وثبات، أي التي لا تغيّرها أوضاع السوء، دلالة ناصعة على الحرّيّة. ولذلك الأحرار لا تستعبدهم الشرور التي تصادفهم، ولا تجعلهم ينسون أنّ الدينونة هي لله وحده. وإذا زادهم الله علمًا وفهموا، باتّباعهم إيّاه، أنّه ارتضى، في هذا الدهر، أن يعالج شرور الأرض بالرحمة والصبر، فهذا، الذي هو شأنه، يجب أن يزيدهم حبًّا لمَن قلّ حبّه، أو انتفى. الحرّ لا تصدمه أخلاق مَن يتبعه برضاه. ولا يبقى الحرّ حرًّا، إن لم يُبْقِ قلبه بعيدًا من الوحل الذي يرمى عليه. هذا هو نهج الذين آمنوا حقًّا بالله المحرّر حتّى لا يفنى الخير في الأرض.

            يحثّنا هذا الويل على محبّة الشهادة الصحيحة. ويحضّنا على أن نبتعد عن كلّ مديح مغرّر، وأن نعيش، بوعي، أنّ الله هو، وحده، صاحب الحقّ في أن يُمتدَح ويَمتدِح. فمَن حيا لله، ينتظر الربّ منه أن ينتهج صدقه دائمًا، ويبقى حرًّا من كلّ تغرير، ليوحي بأنّه يرجو ذلك اليوم الذي يرى الله فيه كلّ حسنة، ويمتدحها في حضرة الملائكة والقدّيسين (متّى 25: 31). وينتظر منه، تاليًا، ألاّ يشارك في سوء مقيت، ليوحي بأنّه يؤمن بأنّ الدينونة هي لله وحده. فمَن قدر على هذا التمثّل، كان صديق السماء التي لا يلجها إلاّ الذين سكنتهم كلمة الله بوفرة، وآمنوا ببراعة الحبّ الذي هو إكليل الذين عفّوا عن كلّ شرّ، ليعفى عنهم.

شارك!

جميع الحقوق محفوظة، 2023
Skip to content