عندما قال الربّ لملاك الكنيسة بأفسس: "مأخذي عليك هو أنّ حبّك الأوّل قد تركتَهُ" (رؤيا يوحنّا 2: 4)، أراد أن يعلّمنا أنّ الموقع، في كنيسةٍ ربُّها لا يَنسى، إنّما هو الذاكرة الحيّة.
قال له إنّ مأخذه أنّه ترك ما كان عليه. هذا ما يبدو عليه ظاهر اللفظ. وهذا يعني أنّه ذكّره بما أعطاه، بما يجب أن يذكره، ويبقى عليه دائمًا. لا تساعدنا الآية، ولا حتّى سياقها، على أن نعرف إن كان الربّ، في كلامه على الحبّ الأوّل، قصد بدءَ خدمةِ مَنْ يخاطبه، أو بدءَ التزامِهِ الكنسيّ. فالقصدان مفتوحان على الممكن. ويعنينا أن نخصّص القصد الثاني. من حيث إنّ البدء، أو البدء المستمرّ، هو الموقع الذي يبنى عليه كلُّ موقع. فكلّنا نعلم أنّنا، في الكنيسة، لا نأتي بأيٍّ كان إلى "خدمة الرسالة". أي كلّنا نعلم أنّ تراثنا أمرنا بأن نأتي بِمَنْ نراه على لهب حبّ شديد. "نوظّف" اللهب. نراه، ونحبّ أن نستضيء به. نراه، ونرفعه فوق كلّ اعتبار. نراه، ونرجو أن يبقى، لنبقى!
ليس، في تقديري، من آيةٍ رُدّدت، ولا سيّما في الأزمات المُرّة، بقدر هذه الآية التي بنينا عليها هذه السطور. وبعض الترداد حمل تذكيرًا راضيًا، وبعضه الآخر رنّةً قاسية. وفي كلا الحالين، كان التذكير هدف كلّ ترداد. ليس، فقط، لكون الكنيسة يمنعنا تعليمها من أن ندين أحدًا، ولا سيّما إن عصى بَعْدَ طاعة، بل، أيضًا، لكون الله لا يريدنا أن نقطع الرجاء به أوّلاً، ولا، تاليًا، بعضنا ببعض. الله، وحده، يقول حكمه. وهذا سوف ينطقه في اليوم الأخير. وله، وحده، أن يستبق الزمن الآتي، ويتكلّم، بلغة الزمن الآتي، "الآن وهنا". وأمّا أنت، إن أرهبك وجع الساقطين، هذا إن آلمتهم سقطتُهم، فيبقى الحبّ هو دافعك الأعلى إلى ثبات القلب. المسيحيّ، أيًّا كان موقعه (أسقفًا، أو كاهنًا، أو شمّاسًا، أو مؤمنًا عاديًّا)، إنّما يجيء من خبرة خاصّة، أي أُولى، ملؤها الحبّ. وهذه خبرة الله الذي كشف لنا نفسه على دروب حياتنا، لنمشي في إثره بشرًا جددًا. فـ"مأخذي عليك" عبارة يجب فهمها على قاعدة هذا الكشف الذي أتمّه، لكلٍّ منّا، الربُّ نفسُهُ.
ذكرنا أنّ تعليمنا لا يعطينا الحقَّ أن ندين أحدًا. وفي خطّ الرجاء المذكور أيضًا، وددنا الكلام على هذه الآية فيما نرتجف (فليصدّق القارئ!). فالكاتب يكتب لنفسه أوّلاً، أو هكذا يجب. الكاتب، الذي حباه تراث كنيسته عن أن يدين أحدًا، يشرّع التراث له أن يدين نفسَهُ، لينقذ قلبه. الآية تخترق القلب، حتّى لا يبقى فيه نتوء. هل هذا يعني أنّ الكاتب لا يرجو أن يُسمع صراخ ألمه؟ لا، بل يرجو. لكنّه لا يرجو أمرًا كما أن يراجع قلبَهُ كلُّ مَنْ يطوله الرعب الذي يفصحه صدقُ صوتِ الربّ. لِمَ؟! لِمَ لا نستبق الزمن، وندين أنفسنا؟ ما من كلام يفوق بلاغة أن يكشف لنا الربّ من كلامه الأخير. لن نجد أحدًا في الأرض يكشف نفسه كما الله. الله، وحده، قال لنا ممّا سوف يقوله لنا. وقاله، لنتعلّم، لنتذكّر. فقد تنسينا الأيّام ما كنّا عليه. قد تنسينا بَدْءَنا. قد تنسينا الأيّام بَدْءَنا، أي قد تنسينا "المواقع" أنّ الموقع، الذي ما بعده موقع، إنّما هو الذاكرة الحيّة.
ربّما لم يكن ملاك كنيسة أفسس ينتظر أن يقول له الربّ ما قاله! أقول ربّما. وحسبي أنّه يجب أن ينتظر. فكلمة الله، التي تمنعنا من أن يغرينا طهر الالتزام فنخال أنفسنا مستحقّين عطايا الله، تمنعنا، في الآن عينه، من أن نجهل مصيرنا فيما نكون متناسين حبّنا الأوّل، فيما نكون قد فقدنا ذاكرتنا! هل الذين يتناسون، أو يفقدون ذاكرتهم، يتجاوزون أنّ الله صادق؟ قلتُ إنّ الكاتب يكتب لنفسه. ويبدو أنّني بدأتُ أنسى! ولكن، وعلى ذلك، ربّما. ربّما يكون هذا جوهر كلّ مخالفة، أو كلّ استمرار في المخالفة. هل لهذا قال تراثنا إنّ أعلى خطيئة هي عدم الإحساس؟ ما الإحساس؟ هل الإحساس سوى ما زرعه الله فينا، لتبقى ذاكرتنا حيّة؟ في يفعتنا (وما زلنا إلى اليوم)، كنّا نسمع بعض مَنْ نعايشهم يستقبحون كلّ خطيئة يقع فيها مسؤول، حتّى لا أقول يستقبحون كلّ مسؤول يقع في خطيئة! وعلى مدافعتنا الشرسة، كانت كلماتهم تقلقنا، وتمعن في حرق قلوبنا. لم نشعر، حينئذٍ، بأنّ هَمَّ الناس أن يوقظوا هرطقةَ مَنْ كانوا، في قديم الأيّام، يربطون صحّة أسرار الله بالخدّام الصالحين، بل أنّهم يريدون شعب الله كلّه على قداسة حياة. وهذا كان يزيد في قلقنا فحرقنا.
ما يعلّي اعتقادنا أنّ الربّ، بما قاله لملاك كنيسة أفسس، أراد أن يتكلّم على الذاكرة الحيّة، قوله التالي: "فاذكر من أين سقطتَ، وَتُبْ، واعملْ أعمالك السالفة". فـ"تُبْ" تعني: "اقرأ وضعك الحالي على ضوء وضعك الأوّل. انظر كيف تغيّرت، وصحّح قلبك، واسترجع ذاكرتك وما كنتَ عليه". وهذا المعنى يفترضه أنّ التوبة، مقرونة بالدعوة إلى العمل وفق الأعمال السالفة، تفيد استرجاع طهر البدء، أو الحبّ الأوّل. ليس أعلى من البدء ثابتًا. ولذلك سمّى تراثنا التوبة "تجديدًا". صحيح أنّها تفيد تغيير الذهن، أو تغيير وجهة الطريق. ولكنّ الصحيح أنّ هذا التغيير لا يبدأ من ذاته. البدء الجديد هو استرجاع نقاء البدء الأوّل، أو الحالة الأولى. وعلى هذا الأساس يجب أن نقرأ قول صاحب المزامير: "قلبًا نقيًّا اخلق فيّ، يا الله، وروحًا مستقيمًا جدّد في أحشائي". لم يقلْ المرنّم: قلبًا آخر وروحًا آخر. طلب التجديد، أي طلب أن يمنحه الله فرصة أخرى لبدء جديد.
في هذا الكلام الرهيب، يُسقط اللهُ على حاضرنا من أقواله الأخيرة، لنبقى في بدء مستمرّ. فكيف لا ننسى أنّ الربّ، الذي لاقانا على دروب حياتنا، سوف يستدعينا في يوم لا رجوع لنا فيه إلى الوراء؟ كيف تبقى ذاكرتنا حيّة؟ وكيف نعرف أنّ موقعنا الدائم هو حبّنا الأوّل؟ هذه كلّها يجيب الربّ عنها في هذه الإطلالة، لنحفظ ودّنا، ونجعل من كلّ يوم من أيّام حياتنا بدءًا دائمًا.