"ليضربني البارّ رحمةً منه، ويوبّخني"
(مزمور 140: 5)
العلاقة، التي تجمع المؤمنين في كنيسة الله، تقوم، أساسًا، على المحبّة التي أرادها الرسول ثابتة (عبرانيّين 13: 1). ومن المحبّة أن تريد إخوتك مخلصين في كلّ ما يرضي ربّهم. وهذا، من دون قربى طاهرة ملؤها المصارحة، أمر تحقيقه صعب، إن لم يكن مستحيلاً. فإن كان من المحبّة أن تريدني مخلِصًا، فهذا، بالضرورة، يتطلّب أن تحيا قريبًا منّي، وتصدقني الحقّ كلّما رأيت أنّ ثمّة ما يدعوك إلى ذلك.
حتّى لا يستسهل قارئ ما أخذْنا قوله، أو حتّى لا يرى آخر أنّ المسيحيّة عسرة التطبيق، لا بدّ، بدءًا، من التأكيد أنّ ما يرغب الله في أن يراه، في جماعته، منطلقه أن يرى كلٌّ منّا أنّ الله، صادقًا، يريده كلّيًّا له. فالمسيحيّة، التي من مقتضياتها أن نريد الآخرين على مثال المسيح الحلو جدًّا، إنّما هي، في جوهرها، دعوة شخصيّة. وهذا يعني أنّه، إن غاب عن ناظري، مثلاً، جمالٌ كنتُ أرجو أن يسكن وجوه بعض إخوتي، يبقى سؤال الله لي: أين أنت ممّا تريده لسواك؟ أو: ماذا فعلتَ، ليتحقّق ما تريده أنت؟
قلنا المصارحة. وهذه تستوجب، أوّل ما تستوجب، وعي الذات وما يعتريها من خطايا متعبة. فسؤال الربّ: "لماذا تنظر إلى القذى (وهو ما يقع في العين من التبن ونحوه) في عين أخيك؟ والخشبة، التي في عينك، أفلا تأبه لها؟" (متّى 7: 3)، هو سؤال شخصيّ، أي موجّه إليّ أوّلاً، أو، بكلام أكثر جرأةً، موجّه إليّ حصرًا. فأنت يستحيل عليك أن تجاهر بالحقّ إن لم تعرف ذاتك، أو، بكلام أعمق، إن لم تكن من الذين يهابون قضاء ربّهم. بهذا المعنى، يجب أن نقرأ قول الرسول: "أيّها الإخوة، إن وقع أحد في فخّ الخطيئة، فأصلحوه أنتم الروحيّين بروح الوداعة" (غلاطية 6: 1). فالوديع ليس من يجعل الناس يطمئنّون إليه فحسب (وهذا تقوله كتب اللغة)، بل هو، إلى هذا وَقَبْلَهُ، من لا ينسى، لحظةً، أنّ الله هو ديّان العالمين. وهل من الممكن أن يطمئنّ أحد إلى من لا يُدرك أنّه تحت قضاء الله؟ والمصارحة تستوجب، تاليًا، أن يقدر من يبتغي أن يصارح غيره على أن يكلّمه ببلاغة المسيح، أو "ببرهان الروح والقوّة" (1كورنثوس 2: 4). وهذا يفترضه أنّ الإشارة إلى خطأ سوانا، (وهذا وجه من وجوه المصارحة، طبعًا)، ربّما لا تنفع دائمًا. فالإشارة، التي لا تدعمها بلاغة ظاهرة، قد يستقبلها معظم الناس، إذا استثنينا الكبار بالروح، على أنّها اتّهام لئيم موجّه إليهم. وهذا، أي أن نكلّم أحدًا ببلاغة المسيح، غير ممكن، موضوعيًّا، من دون أن نجتهد في معرفة ربّنا ما قاله وفعله، وتاليًا في ذوق ما اختبره الذين أحبّوه جيلاً فجيلاً.
غير أنّ ما قلناه يفترض وجود بشر يحبّون الحقّ بصدق ظاهر. فالمصارحة، التي تتطلّب من يعي قيمة طهر الله، تتطلّب، تاليًا، أشخاصًا يعنيهم نهجها، ويطلبونه بشغف ظاهر. إذ لا يكفي، لتفيدني، أن تحمل إليّ الحقّ الذي ترى أنّني أحتاج إليه فحسب، بل يجب أن أكون، أنا أيضًا، من محبّي الحقّ الذي أراه يتلألأ على فمك. وهذا، في الواقع، ما قصده بولس بكلامه الذي اقتبسناه أعلاه. فالرسول قال: "إن وقع أحد"، وأراد أحد أعضاء الجماعة الذي يجب أن يعنيه طهر الله، أو يعنيه أن يسترجع طهر الله. هل يعني هذا أنّ من يظهر أنّ كلمة الحقّ لا تعنيه البتّة، لا يمكن أن نبثّ فيه روح قبولها؟ لعمري، بلى، أو، على العموم، بلى. وهذا يمكن أن نلاحظه، أيضًا، من كلام الرسول عينه، أي من قوله: "أصلحوه أنتم الروحيّين". فالرسول، بهذا القول، حدّد صفة أساسيّة من صفات من يعون أهمّيّة عمل الصلح في جماعة الله، أي "الروحيّين"، وهم الذين يحيون بالروح القدس، أو الذين يحرّكهم الروح، الذي فيهم، إلى نشر حقّه. فيجب أن نثق بأنّ عمل الصلح يمكن أن يفتّت أيّ إصرار على الخطأ مميت، إن رآنا من نصارحه نحيا بمنطق ما نطلبه، أي إن رآنا مثال ما نريده من غيرنا. وهذا معناه أنّ المسلك الصحيح هو الذي يشجّع الإخوة على قبول القول الصريح. فالمسيحيّة مثال. ومن المثال تنشأ التربية.
قلنا، في أعلى هذه السطور، إنّ المحبّة تفترض قربى. والقربى لا يظهرها، بكلّ مقتضياتها، أن نجتمع، معًا، في أوان الصلاة حصرًا (على أهمّيّة اجتماع الصلاة). القربى، إلى ذلك، تفترض أن ندرك، بواقعيّة كلّيّة، أنّنا "من أهل بيت الله"، أي من عائلة الله الآب الذي جَعَلَنا إخوةً بنعمة ابنه الحبيب. وهذا، أيضًا وأيضًا، يظهره كلام الرسول الذي نادى من طلب منهم عمل الصلح بـ:يا "أيّها الإخوة". فالمسيحيّون إخوة، أي كلّهم يخصّون الله أباهم وبعضهم بعضًا. وشأن الأخ الراضي أن يريد إخوته كبارًا في النعمة والحقّ. وهذه الإرادة، التي هي إرادة الله، يؤكّد حقّها أن يصلّي الأخ مع إخوته، ويحيا معهم، ويعرفهم عن كثب، ويفيدهم، ويقبل أن يفيدوه. فالمصارحة بنت القربى، أي بنت الحياة الواحدة التي أرادها الربّ خلاصًا لنا.
كلّما دفعت وداعة أحد إخوتي إلى أن يصارحني بما يشبهني، أو حتّى بما لا يشبهني، يجب أن أعتبر أنّه يغار على خلاصي. هذا سبب يكفي، لأفرح به، وأضمّه وما قاله إلى قلبي، وأتّعظ. وهذا، تاليًا، يعطيني أن أكون واحدًا من الذين أُعطوا أن يساهموا في صحّة حياة كنيسة تؤمن بأنّ ربّها بيّن حبّه لها، علنًا، وجهًا بوجه.