المقصود بالقيادة، في هذه السطور، قيادة السيّارات على الطرقات (في لبنان). أمّا الأخلاق، فعلى أنّه أُريد منها، في ما يوافق ما بدأناه هنا، معرفة قوانين السير والتزامها نهجًا في قيادة رزينة، أحبّ أن تتضمّن (لفظة "أخلاق") رجاء أن يعي القائد، أيُّ قائدِ سيّارة، أنّه، فيما يقود سيّارته، يريده الله مسؤولاً عن حياة الآخرين الذين يقودون سيّاراتهم، أو يمشون على الطرقات. ثمّة "قول حكميّ"، يتعلّق بما أكتب عنه الآن، علق ببالي مذ كنت فتًى. وهذا أنّ "قائد السيّارة الماهر هو الذي يقود عنه وعن سواه بآن"!
يعنيني التزام القوانين كثيرًا. ولا أبتعد عمّا يعنيني كثيرًا إن قلت: منذ سنتين فما قَبْل، كنت، كلّما رأيت إنسانًا يتكلّم على هاتفه النقّال فيما يقود سيّارته، أنزعج كثيرًا. وكنت أنزعج، أكثر بكثير، إن رأيته، فيما يقود سيّارته، يحمل هاتفه في يدٍ، وينهمك في إشعال سيجارة في الأخرى. أمّا مذ وصلت إلينا خدمة "الجيل الثالث" (3G)، أي ما يساعدنا على استخدام الإنترنت على هواتفنا المحمولة، بات مشهد إنسان "يقرأ ويكتب"، فيما يقود سيّارته، يحرّك انزعاجي كلّه. كلّه كلّه!
يمكنني أن أتصوّر أنّ أناسًا كثيرين، دخلوا مثلي في منتصف عقدهم السادس، قادرون على أن يتفهّموني إن قلت إنّ اندفاعي في قيادة السيّارة تراجع كثيرًا عن اندفاعي في مطلع قيادتي. لكنّني لم أتوقّع من نفسي أن أصل إلى يوم أغدو فيه أنزعج من هذه القيادة. أجل، باتت تزعجني، بل بتّ أستقبحها. وهذا حالي إن كنتُ أقود سيّارتي أو يقود فيَّ آخر. لا أعلن قرارًا أنّني سأهجر القيادة كلّيًّا (أتمنّى أن أفعل ذلك في يوم قريب)، بل أكشف نفسي. ففي بلد مثل لبنان، الذين يذهبون ضحايا حوادث السير يفوق عددهم كلّ تصوّر (منذ سبع سنوات، تسجّل إحصائيّات المديريّة العامّة لقوى الأمن الداخليّ، في كلّ سنة، ما يزيد على نحو 4000 حادث، من الحوادث التي تعلم بها، يسقط فيها ما يزيد على 500 قتيل و6000 جريح). هذا، إن عرفته، فأنّى لك أن تكتفي بأن تنزعج؟ يحتاج الإنسان، ليقود سيّارته في لبنان، إلى عشرين عينًا. فكيف يمكنك أن تقودها إن كنت لا تملك سوى اثنتين؟ أنّى لك أن تبقى على اندفاعك عينه؟
ثمّة أسباب عديدة تسهم في كوارث حوادث السير. وإن اخترت المراسلات الفوريّة (WhatsApp) على "الهواتف الذكيّة"(Smartphone) سببًا هنا، لا أعني أنّ الأسباب الأخرى لا تهمّني. ولكنّ هذا السبب، الذي دوافع شيوعه معروفة، إن لم يعِ كلٌّ منّا خطورته (ومعنا الدولة اللبنانيّة، بل قَبْلَنا)، لا أعلم مصير الإحصائيّات التي نقلتها. هل ستبقى هي ذاتها، أو ستزداد أكثر بكثير؟! هذا من الخفّة أن نستخفّ به!
تأخّرت عن رواية هذا المثل المزعج الذي سرّع في دفعي إلى وضع هذه السطور:
كنت، أوّل من أمس، أقود سيّارتي على طريق عامّ راجعًا إلى منزلي. رأيتُ، من المرآة أمامي، سيّارةً خلفي تقودها فتاة تبدو يافعة. كان مشهدها مزعجًا (بل قبيحًا) جدًّا! كانت تضع رُسْغَي يديها على موجِّه السيارة فيما كفّاها يحملان هاتفًا فوق المقود، وأصابعها تتحرّك، وعيناها تتنقّلان من الهاتف إلى الطريق ومن الطريق إلى الهاتف. فهمت أنّها تكتب على هاتفها. أجل، كانت تقرأ، وتكتب! حاولتُ أن أوجّه سيارتي إلى يمين الطريق هربًا منها. وفيما كنت أفعل، لاحظت أنّ السائق، الذي بتُّ قريبًا منه، كان يقرأ ويكتب أيضًا! زاد انزعاجي. لكنّ ما كاد يفقدني صوابي أنّه كان يجايلني في السنّ. ومَن كانوا في سنّنا، يحتاجون، عمومًا، إلى نظّارة تعينهم في القراءة والكتابة. وكان الرجل يضع نظّارته على أسفل أنفه!
يا ليت أحدًا يذكر لنا ما هي الأمور الملحّة التي تدفعه إلى أن يخاطر بحياته وحياة سواه!
ماذا أردت من وضع هذه السطور في نشرة كنسيّة ملتزمة؟
آن لي أن أقول إنّ أيّ مسيحيّ عارف (ولا أعني أنّ هذه المخالفة يرتكبها المسيحيّون فقط) لا يمكنه، أيًّا كان عمره أو موقعه (في المجتمع أو في الكنيسة!)، أن يقنع سواه بأنّه يؤمن بأنّ المسيح هو حياتنا حقًّا، إن لم يخدم حياة الله في الأرض، دائمًا في غير حال. شخص، يقود سيّارته فيما عيناه هنا وهناك (وتاليًا تركيزه)، شخص لا قيمة عنده للحياة، حياته وحياة الآخرين، شخص متهوّر، شخص، إن خصّصت المسيحيّين، قليل أن يقال فيه إنّه لا يعرف من المسيحيّة شيئًا. لا أريد أن أخلط الأمور بعضها ببعض. ولا أرى أنّني أفعل إن قلت إن جاء عضو في كنيستي يخبرني بنفسه عن نفسه أنّ هذه السطور ينطبق مضمونها عليه، إن كان الأمر بيدي، لطردته من حياة كنيستنا فورًا! لا يمكن أحدًا أن يكون عضوًا في كنيسة الله إن بدا أنّه لا يعبأ بحياته وحياة الآخرين. ليكون عضوًا، ينبغي له أن يعي، في قوله ومسلكه، أنّ شأنه، في غير تفصيل، أن يخدم حياة الله في الناس، أي يريدهم جميعهم أن يحيوا، ويسعى إلى ذلك!
أمور كثيرة تدلّنا على أنّ معظم الناس، بل كلّهم، يقودون سيّاراتهم، كما يقودونها، فيما يثقون، عمومًا كثيرًا، بأنّهم سيصلون إلى المكان الذي يقصدونه. جميع الذين تقول الإحصائيّات إنّهم ارتكبوا مجازر حوادث السير، لا شكّ في أنّهم كانوا واثقين بما يريدونه أيضًا. ليست ثقتي بنفسي هي التي يمكن أن تحميني وسواي، بل التزامي القانون الذي دعوتي أن أحفظه كلّه، بل أخلاقي واتّكالي على الله.
قَبْلَ أن أقود سيّارتي، عليَّ أن أذكّر نفسي بأنّني مكلّف، إلهيًّا، أن أنشر ثقافة الحياة في الأرض!