لماذا اخترتُ أن أكلّمك، في هذا الموقع، على القداسة؟
أنت تعرف أنّ للمواقع مدلولاتها. وأقول لك، بصدق، إنّه خطر لي أن أترك كلامي على القداسة إلى آخر هذه الصفحات التي أنشئها لك. غير أنّ ما دفعني إلى أن أغيّر رأيي أنّني حسبتُ أنّ هذا الموقع، الذي يأتي ضمن مواضيع أخرى، قد ينبّهك إلى أنّ القداسة، التي نرجوها أخيرًا، إنّما هي من صميم حياتنا في المسيح.
لن أكلّمك، هنا، على قداسة القدّيسين المنتصرين. فما يلحّ عليَّ أوحيتُ إليك به. ما يلحّ أن أبيّن لك بعض ما يساعدك على أن تدرك أنّ الله يريدك أن تعتبر، الآن وكلّ آنٍ، أنّ القداسة تعنيك أنت أيضًا، أي يجب أن تعنيك كما عنت القدّيسين الذين نعيّد لهم في كنيستنا، وكما يجب أن تعنينا كلّنا بأجمعنا، أيًّا يكن عمرنا أو جنسنا أو موقعنا. ويهمّني أن أبدأ كلامي بقولٍ سمعتَهُ منّي مرارًا: "الحياة أولويّات". وإن كنتَ تذكر، فإنّ هذا القول ردّدتُهُ عليك، لا سيّما فيما كنتَ تتابع مرحلة تعليمك الثانويّ، لتبقى تعتبر أنّ ما كنتَ تفعله يفترض أن تتعاطى معه على أنّه أوّل. لم أكن أريدك أن ترفّع دراستك على مقتضى التزامنا الكنسيّ مثلاً، بل أن تتجنّب خلطها بلهوٍ قد يوهمك بأنّه أوّل، ولو كنتَ أذكى من أن تسمّيه لفظًا كذلك. وكما أنّ خلط الأولويّات يوقعنا في متاعب مُرّة، إهمالُنا أنّ القداسةَ إنّما هي أولويّةُ حياتِنا في المسيح يجعلنا نخرج على التزام الحقّ. وأن تكون القداسة أولويّةً، لهو أن ندرك، إدراكًا كلّيًّا، أنّنا مخصّصون لله. وهذا معنى القداسة لفظًا.
"أنّنا مخصّصون لله"، يعني أنّ الله، عندنا، هو الأوّل، أو هذا ما يجب. والأوّل لا تعني أنّ ثمّة أحدًا (أو أمرًا) سواه يمكن أن نعتبره ثانيًا، وآخر ثالثًا أو عاشرًا أو ألفًا. الأوّل تعني أن نحكم حياتنا كلّها به وحده، في أيّ عمل نعمله، في أيّ مكان نحلّ فيه، مع كلّ زفرة من زفراتنا، مع كلّ نبضة تنبض في صدورنا، مع كلّ طلوع شمس وكلّ مَيَلان نهار.
لا أريد أن أكرّر نفسي. لكن، يهمّني أن تبقى تعلم بأنّ ما من أمر يغضبني، في الكون كلّه، يفوق خطأ مَنْ يحكمون حياة القداسة بإصرارهم على فرديّةٍ تعزلهم عن جماعة الله قدّوس القدّيسين. فللقداسة موقعها، ليس ضمن سطور (لا أعرف ما سيكون مصيرها)، بل في شركةِ إخوةٍ كلُّ شأنهم أن يلتزموا الله، ويسعوا إلى نشر طيبه المتدفّق في أرجاء يعوزها أن تستحمّ بطيبه. وإن كنتُ أرجو أن يعنيك أمر، فأطلب منك، هنا، أن تتبنّى غضبي، وتعلّيه باستمرار، حتّى تدرك ما أدركنا المسيح من أجله.
أنت تعرف أنّ ما يأخذ بمجامع قلبي هو سلوك بعض الخادمات المسيحيّات اللواتي يتركن بلادهنّ طلبًا للرزق الحلال. يأخذني منهنّ لا سيّما المصرّات على محبّة الله أبي ربّنا يسوع المسيح. وهذا إصرار لا أحصره باحتمال الكثيرات منهنّ أن يضطهدهنّ بعضُ التافهين في بلدنا، الذين يلبسهم لبسًا ذلك الوصف المعيب: "حديثو النعمة"، بل إخلاصهنّ لله في "أرض غربة". هل ما يأخذني فيهنّ لا أرى نظيره في بعض أبناء بلدي؟ بلى، أرى. لكنّي آخذ مثل "البعيد" من دون أن أقصد استبعاد بهاء "القريب".
لقد وصلتْ إليَّ عشراتُ الشهادات التي تفتن الألباب بإظهارها صدق قلوب بعض مَنْ لا يعرف الكثيرون قيمتهنّ. ويعنيني أن أروي لك قصّةً، أصابتني بجنون، رواها لي شخص نقلاً عن قريب له يحبّ الله حبًّا صارخًا. قال:
"كان قريبي يهوى الهدوء كثيرًا. وكان البناء، الذي يقطنه، يساعده على تحقيق ما يهواه. ثمّ تغيّر حال البناء فجأةً. عائلة لبنانيّة استأجرت شقّةً، مقابل شقّته، يملكها جارٌ له يحيا في الخارج منذ سنين. فصار يستيقظ، كلّ صباح، على أصواتِ أغانٍ غريبة يقتحم ضجيجها منزله، ويعكّر عليه صفو صباحه. وعرف أنّ المسؤولة عن هذا الصخب إنّما هي خادمة الجيران الجدد التي كانت تنتظر خروج مستخدمَيْها إلى عملهما، لتطلق لحرّيّتها العنان. لم يحاول أن يتّصل بالجيران، ليشكو الخادمة. فمن شيمه أنّه يكره الثرثرة وما تفترضه من أخذ وردّ. وعلى كون الأغاني باتت "لعنة" كلّ صباح، آثر ما يكرهه على هدوئه. ثمّ استقدمت زوجته خادمةً، لتعينها، في المنزل، من وقت إلى آخر. وفي صباح أحد أيّام الضجيج، سأل الخادمة إن كانت تفهم نوع الموسيقى التي تأتي من منزل جيرانهم. فابتسمت، وأجابته بعربيّة عرجاء: "إنّها أناشيد دينيّة ينشدها مسيحيّو بلادي"! لم يعلّق على ما سمعه علنًا. لكنّه، في سرّه، شكر لله أنّه آثر ما يكرهه على هدوئه. ثمّ زاد على شكره أنّه عرف أنّ الفتاة، المسؤولة عن الموسيقى العالية، كانت تفعل ذلك بطلبٍ من فتاة أخرى من بنات وطنها، تخدم في بناء يقابل البناء الذي تعمل فيه، لتسمع، هي بدورها، ما يمنعها أرباب عملها من فعله. وصارت الأغاني الغريبة تبعث فيه هدوءًا من نوع آخر، هدوءًا أكثر قيمةً من هدوئه. وما كان يتلقّاه لعنةً، بات لونًا من ألوان الفرح بأنّ ثمّة مَنْ لهنّ إصرار عجيب على الإخلاص للربّ في أرض غربة".
لِمَ اعتنيتُ بأن أروي لك قصّةً في مجرى كلامي على القداسة؟
الجواب بسيط: لأنّ القداسة قصّة، قصّة الله معنا. وإن استطعتُ أن أجعلك تلاحظ أنّ قصّة هذه الفتاة "الغريبة" من حاضرنا، فأنتظر منك أن تعتقد اعتقادًا راسخًا بأنّ الله باقٍ يزرع حقل أرضنا ببذور قداسته. لن أروي لك قصصًا، هنا، بعدُ. كان الأحبّ إلى قلبي أن أفعل. إذ ما من أمر يفوق بلاغة القصّة. لكنّي أحسب أنّني لا أخرج على ما يحبّه قلبي إن جعلتُكَ تقتنع بأن تروي أنت، في حياتك، قصّة الله أيضًا. فنحن، يا بنيّ، لا نستذكر القصص، التي فعلها الله في قدّيسيه ويفعلها مع الكثيرين اليوم، إلاّ لنرجو حضوره فينا أيضًا. أنت لا بدّ من أنّك تعرف أنّ هناك أناسًا كثيرين، تعجّ بهم أرضنا، يعتقدون أنّ الله فعل ما فعله، اختار مَنِ اختاره. وهذا، من دون إدانة، اعتقاد لا يريدون منه سوى أن يعفوا أنفسهم من قبول أنّ قداسة الله هي مشروعه معنا أيضًا. ألم تسمع مَنْ يقول اعتراضًا على حثٍّ فاضل: "أنا لستُ قدّيسًا"؟ أو: "لعلّي أنا المسيح"؟! هذه لغة تكاد تكون عامّة. أمّا أنت، فاطلبْ أن ينعقد لسانك عن الكلام قَبْلَ أن تساورك نفسك أن تردّد مثل ما نقلتُهُ إليك هنا. "تفهّم ما أقول، والربّ يجعلك تدرك ذلك كلّه".
لقد كلّمتُكَ، في سطور آنفة، على المعموديّة عبورًا. والمعموديّة، كما يجب أن تكون قد استنتجتَ، هي، في جوهرها، تخصيصٌ لله. كلّ تعليمنا عن القداسة نجد أساسه في تعليمنا عن المعموديّة. فنحن، يوم عَمَّدَنا ذوونا، جَعَلَنا الربّ نخصّه. يمكنني أن أخمّن أنّ ما أقوله لك، الآن، يرميك في ذهول شديد. إذ يمكن أن تسأل نفسك: كيف يكون ذلك، والمعمَّدون المهمِلون لا يعدّون ولا يحصون؟ وهذه، اعذرني، انطلاقة خاطئة. فنحن لا نستند استنادًا عشوائيًّا إلى بشر، لنؤكّد ما أراد الله أن يعلّمنا إيّاه. هذا ما يفعله أعداء الإيمان، لينتقدوا أسرارنا، ويعيثوا في الأرض فسادًا. نحن نستند إلى الله الذي قَبِلَهُ مَنْ فهموا أنّهم يخصّونه. وهذا، الذي قرّره لنا جميعًا منذ الأزل، أعطانا أن نقبله، أو نرفضه. وهناك مَنْ يقبلون. وهناك مَنْ يرفضون. ولكنّ أيّ قبول، أو أيّ رفض، لا يمكن أن يغيّر محبّة الله لنا، أو ما ينتظره الله منّا. والله ينتظر أن نتوب إليه دائمًا. فالتوبة تعيد إلينا جَمال المعموديّة إن تجاوزناها، وتثبّتنا فيها إن أخلصنا لله.
قال الله لنا: "كونوا قدّيسين، كما أنا قدّوس". لم يقل: كونوا قدّيسين، وكفى. فهذا ربّما يجعلنا نستغرق في اعتقاد أنّ قداسته يمكن أن نتمّمها في انفصالنا عنه. والقداسة نعمةٌ، اللهُ يحقّقها. لمّا قال: "كما أنا"، لم يرسم لنا المثال الذي يجب أن نصبو إليه فحسب، بل جعل نفسَهُ محقّقَ ما يرغب فيه لنا أيضًا. وكلّ القداسة أن نصدّق أنّ الله قادرٌ على أن يفعل فينا كلّ ما يرغب فيه لنا. وهذا تصديق يفترض أن نثق به ثقةً عمياء. وأقول عمياء بحكم الترداد الشائع. أمّا نحن، فيجب أن نثق به ثقةَ مَنْ رأوا بأمّ أعينهم أنّه صادق كلّيًّا. مَنْ حقّق قداسته على مدّ التاريخ، لا يمكن أن يعتريه كذب. حاشا!
يا بنيّ، صدّق الله. ضعْ كلمته أمام عينَيْك. اقتدِ بمظاهر حبّه. واجتهد في سعيك.