11نوفمبر

العمل الحركيّ في جبل لبنان بين الواقع والمرتجى

حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة - مركز جبل لبنان
المؤتمر الداخليّ، تشرين الثاني ٢٠٠١

            مقدّمة

            الكلام على العمل الحركيّ في جبل لبنان من الواجب افتتاحه بشكر الله الفاعل والمنعم والعضد. فما من خدمة صحيحة أو إنجازٍ حدث، أو يحدث في مركزنا، أو تعبٍ بذل، إلاّ من فضل الله وحده. فهو الذي يعمل دائمًا، ومن رحمته نحن "نتحرّك ونحيا ونوجد". إنّ حبّه يحثّنا على هذا الاعتراف ودوام الشكر. وإذا تكلّمنا على الواقع خيرًا، نردّ له كلّ نجاح. أمّا كلّ فشل سبّبناه أو تعثّر أو عثرة، فنرجو أن يغفره لنا وألاّ يتركنا أسرى عادات بالية أو انحرافات مخجلة.

            من هذا الثابت نجيء إلى الواقع راجين كلّ استقامة، وعارفين أنّ هذه الاستقامة غير ممكنة، عمليًّا، من دون نعمة من الروح القدس الذي يريدنا أن نفحص حياتنا باستمرار، لنصحّحها، لئلاّ نكون مكتفين بما أُنجز وغافلين عن تجدّدنا وتقدّمنا.

            لذلك، لن أتبسّط في الكلام على المنجزات التي الله صانعها، بل سيكون تحرّكي، عمومًا، على مدى هذه الصفحات، في حدود بعض الممارسات أو المناقشات التي جرت وتجري في بيتنا الحركيّ في جبل لبنان، راجيًا المساهمة في توضيح ما يجب توضيحه، والتطلّع إلى خدمة فضلى والتزام جماعيّ أفعل. وحاشا أن أجعل نفسي، في هذه المحاولة، فوق النقد، متى جاز النقد، أو أن ألمّح إلى أحد ربّما لا يوافق على بعض ما تتضمّنه هذه الأوراق. فالهدف هو مراجعة المناقشات التي ما زال صداها يتردّد هنا وثمّة، وتوضيحها، ورجاء رضا الله.

            وحدة الحياة

            أوّل سؤال طرحته على نفسي، قَبْلَ أن أكتب هذا التأمّل، هو: هل من جماعة في الأرض يسود الطهر كلّ أعضائها في حضورهم وسلوكهم وشهادتهم، وتعيش بلا صعوبة أو بلا مشاكل؟ والجواب البديهيّ المستشفّ من التاريخ والواقع، كان: لا. فالكلّ يعرف أنّ كلّ جماعة كنسيّة بشر هي، ولا تخلو من عيوب، ولو أنّ معتقداتها ورسالتها وطموحها لا يوازي طهرَها أيُّ تجمّع بشريّ في الأرض. وتاليًا أنّ كلّ صعوبة لا يمكن أن تزول كلّيًّا قَبْلَ أن ينهي الربّ زمان الناس، ويلبس أحبّاءه مجده الأخير.

            هذا، في كلّ حال، هو وضع الجماعات المسيحيّة في نشوئها ومسيرتها في كلّ جيل. فهي ما ادّعت أنّ جميع أعضائها أبرار ومخلصون، ولا قالت هذا كتب التاريخ. غير أنّ الأطهار كانوا، دائمًا، يجاهدون لتغيير واقعهم وواقع جماعاتهم. فما دمنا نعيش في هذا الدهر، فكلُّ حياتِنا سعيٌ ورجاء. صحيح أنّنا، جماعةً، مدعوّون، في هذا الزمن، إلى أن نكون واحدًا ومخلصين على غير صعيد. ولكنّ هذا، واقعًا، يبقى من باب السعي والمرتجى. فإذا استثنينا القدّاس الإلهيّ الذي يلملم فيه المسيح شعبًا مبعثرًا ويوحّدهم فيه معًا، تبقى الوحدة والنقاء على صعيد الحياة اليوميّة وتفرّعاتها مسيرةً ليست لها نهاية في الأرض. فهذه يمكن أن تصير في هذا الزمان كلّيًّا، "فغير المستطاع عند الناس مستطاع عند الله"، أو تصير جزئيًّا، أو يمكن، في بعض المواقع، ألاّ تصير بتاتًا. غير أنّ تعثّرنا وفشلنا لا يمنعان من السعي، أو التضرّع إلى الله، لكي ينعم على مَن أعطاهم أن يشتركوا في جسد ابنه ودمه، بوحدة دائمة وحياة طاهرة.

            الصعوبة، في هذا الطرح، تكمن في هذا الفرق الذي يبدو فيما نقابل التزامنا بسرّ الشكر وما يتبعه من لقاءات وتفكير وعمل. فهل يصحّ أن تكون حياتنا، في أحيان كثيرة، مختلفة عن سرّ الشكر؟ لا أريد أن أبدو سلبيًّا، بل أن أرجو. والرجاء تذوّق الكمال الذي ينتظره المؤمنون اليوم وغدًا. ولا أفهم هذا عدديًّا، فالمسيحيّة ليست ديانةً عدديّةً، ولو أنّها تصبو إلى خلاص الجميع. لكنّها المحبّة التي ترجو أن يغلب الجميعَ مجدُ الله، ويوحّدهم فيه معًا.

            وإذا أردت أن أكون متفائلاً وواقعيًّا في آنٍ، أقول إنّ القدّاس، الذي يبيّن هذه الصعوبة، هو، أيضًا، يبدّدها. ذلك إذا فهمنا أنّه اللقاء الأبديّ الذي يجري في هذا الزمان، ليتجاوزه من دون أن يلغيه. فنحن، على كلّ صعوبة، دعوتنا هي أن تكون حياتنا كلّها قدّاسًا إلهيًّا. رحلة إلى فوق. من فوق نأتي وإلى فوق نتوق. ولذلك، إذا اعترتنا المصاعب، جزءًا لا يتجزّأ من واقعنا، لا نيأس، لأنّ اليأس نوع من أنواع الجمود، والجمود موت، والموت قهره ابن الله لمّا صلب على الخشبة. نتعب، ونقلق، ونحزن، ونبكي، ولكن لا نيأس. نقع ثمّ نقوم. وكلّما وقعنا، يجب أن نقوم، لأنّ اليد الطاهرة القويّة القادرة على تضميد الجراح وصنع المعجزات وتغيير الواقع، تلك اليد التي امتدّت لبطرس وهو يغرق في البحر، ما زالت هي ذاتها ممدودةً، لتنتشل الواقعين والملتجئين "إلى الرحمة الغنيّة العظمى".

            معثرة الضعفاء

            في الواقع، إنّ الحركة، في جوهرها، حركة إصلاح ومصالحة. وهذا يعني أنّها وجدت لتعمل، مع الكنيسة وفيها، على تغيير كلّ واقع مخالف، وأن تحرّك الناس، الذين أبعدتهم الخطيئة، نحو المسيح الغالب، ليقبلوا صلحه. وهي، بهذا المعنى، نهضويّة. الحركة لم تخترع النهضة. المسيح هو الناهض أبدًا. وهو، وحده، الذي يناديها، وينادي الجميع أن يستيقظوا من سُباتهم، ويقوموا إلى حياة جديدة. ولذلك، الأتقياء الكبار فيها تحزنهم كلّ معثرة يقع فيها (أو يسبّبها) الضعفاء، وتاليًا كلّ شرخ بين الكلام الحقّ والحياة. يجرحهم أنّ مَن يُنتظر منهم أن يكونوا كبارًا ناضجين، لأنّهم رضعوا حليب المعرفة وأكلوا خبز السماء، ما زالوا صغارًا يتلّهون بما لا يجدي نفعًا. يتأكّلهم القديم، يجتروّنه، ويرجئون الجدّة، لأنّهم لم يفهموا سرّ الأبديّة التي هبطت على مَن وقعوا أسرى "محبّة مجنونة". يحسبون أنّ الشباب زمان لهو ومرح، ويتوقّعون أن يمدّ الله عمرهم، ليشيخوا، ويتوبوا. وذلك بأنّهم لم يسكنوا الحكمة في شبابهم، ولا سمحوا لها بأن تسكنهم. وعلى ذلك، لا ييأس المتّقون، ويشدّون نظرهم إلى فوق، لأنّ السماء تنبئ بالفرج، والأرض لا تخلو من بصمات الروح. فالذي لا يعرف انفعالاً وليس للحقد مكان في قلبه، له، دومًا، "بقيّة باقية"، وهو قائم، ولا بدّ من أن يقيم المغلوبين إلى غلبته ونصره.

            من العتاقة إلى الجدّة

            ثمّ آتي إلى العيوب التي تشوّه الالتزام، وهي عديدة. والعيوب نصيب العاملين الذين لا يؤمنون بأنّ الالتزام الكنسيّ في الأرض حكر على "الأوادم"، بل إنّ الخطأة والمشوّهين هم، أيضًا، أحبّاء الله الأخصّاء، وهو ينتظرهم، ليكمل ابتهاج العرس. فإنّ الربّ لم يأتِ، ليدعو الأبرار إلى التوبة، بل الذين أرهقتهم المآثم، ورزحوا تحتها. ولذلك، لا بدّ من أن تضربنا المصاعب والعيوب، إن قرّرنا العمل في هذا العالم. فإنّ الحقل مجموع من حنطة وزؤان. والباب مفتوحًا يدخله كلّ الناس. وقد تدخل معهم المآثم، ويبقون عليها. وقد يخلطون القديم بالجديد. المهمّ أن يقدر الملتزمون على محاربة العالم القائم في قلوبهم وفي قلوب الآخرين، وألاّ يعطّل مسيرة التجدّد الإصرار على العيوب القديمة.

            حقّ القداسة

            ربّما يكونّ أفظع عيب هو هذه الهوّة العظيمة بين ما يريده الله وما يريده البشر. "إرادة الله قداستكم"، هذا ما قاله بولس الرسول. كيف تكون هذه الإرادة مشروعنا الحقيقيّ، ذاك هو السؤال؟ والقداسة هي أن توافق المسيح في كلّ ما يرضيه، وتسلك مستقيمًا في وسط جيل اختار الفسق و"التفرّج" والغربة نهجًا، وعبد شهواته. تأتي إلى المسيح صاغرًا فارغ اليدين، ليغنيك هو، حتّى تقدر، بغناه، على أن "تنقل الجبال". تجيء إليه عاريًا، لأنّ القيامة غير ممكنة من دون عري، من دون صليب. وتفهم، بعد أن يلبسك المسيح حلّة العرس، أنّك رسوله. ليس من رسوليّة حقيقيّة تقوم بلا تكليف من مسيح الربّ. من محبّته وعشرته يكون التكليف. أوْ ليس من تكليف. هناك تحرّك فارغ لا يأتي بأحد إلى القداسة. فمَن لا يحبّ الله ويؤمن بمجده ويعاشره في الجماعة، يشوّه الطريق. يأخذ البشر إلى نفسه، ولا يكون الله هو الهدف. مساكين هؤلاء الناس الذين شرّعت لهم الكنيسة بابها، ولم يدخلوا منه. ولكنّهم تسلّقوا "من مكان آخر". هؤلاء يبقون "غرباء"، ولو جلسوا في أعلى مقام. وإذا كان الله هو الهدف الوحيد، السيّد في كنيسته التي اشتراها بدمه، نكون نحن لا أحد. عملة أوصانا هو أن ندعو أنفسنا "عبيدًا بطّالين". ومتى فهمنا سيادته حقًّا، هو يرمي علينا وشاح البنوّة. فالحقّ أنّ الله يريدنا أن نقبله في ما بيننا، ليسود حياتنا ومواقفنا ومشاريعنا. هو بهذا المعنى يريدنا مقدّسين، أي أشخاصًا عرفوا أنّه هو القدّوس الوحيد، ويستحقّ أن يُعبد بفرح وطاعة كلّيّة.

            المواهبيّة

            قالوا وقلنا، مرارًا وتكرارًا، إنّ الحركة ليست مدرسة. طبعًا، أحد أسسها هو التعليم. لكنّها ليست مدرسة. وهذا القول ما عنى، في صفوفنا، يومًا، عداءً للمعرفة، بل إنّ التعليم، في الكنيسة، مسخّر أوّلاً للسلوك الصحيح، ويفترضه أيضًا الدفاع عن الإيمان القويم. فنحن لسنا مدرسة، ولو كان هذا القول يوحي بأنّ أعضاءنا محبّو العلم الإلهيّ، ويجاهدون في سبيل حفظه. وهذا ليس بالكلّيّة صحيحًا. فإذا تفحّصنا وضعنا بعمق، لا يرضينا الجهل الذي يتفشّى بيننا. يجب، من دون شكّ، أن ننتقد المدرسيّة، ونرفضها خوفًا من تشويه الحقيقة ومن أن يختزل الاجتماعات الحركيّة أشخاص محدّدون، وتفقد أن تكون قادرة على التربية الصحيحة. ولكن يجب أيضًا، وبالقوّة عينها، أن نرفض الجهل ونحاربه، حتّى يستقيم سلوكنا وشهادتنا.

            نحن، على العموم، نتحرّك بين متناقضين غير مخفيّين: ننتقد المدرسيّة ونعاني، في الوقت عينه، جهلاً عقيمًا، وقلّةً في المرشدين، ومرشدين غير جديرين بهذا الموقع، لا لأنّنا لسنا بمدرسة، لكن لأنّ الكثيرين لم يفهموا حقيقة الكنيسة المواهبيّة. يغرينا موقع المرشد. وأوهمنا أنفسنا بأنّه الموقع المنقذ. وفضّلناه على مواقع عديدة. وتهنا في دوّامة ليست مثلها دوّامة. وكدنا ننسى أنّنا عندما خُتمنا بالروح القدس فرزَنا الروحُ كلاًّ حسب الموهبة التي أنعم علينا بها. والحقّ أنّ ما نحن نحتاج إليه هو أن نعرف ما هي الموهبة التي مُنِحْناها، مُنِحَها كلُّ واحد منّا. وهذا لا يتمّ بما أنا أستحليه وأفضّله، بل باندماج حقيقيّ في حياة الكنيسة المفتداة. هذه التي وصفها الرسول في رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس، بقوله: "إنّ المواهب على أنواع وأمّا الروح فهو هو، وإنّ الخِدْمات على أنواع وأمّا الربّ فهو هو، وإنّ الأعمال على أنواع وأمّا الله الذي يعمل كلّ شيء في جميع الناس فهو هو. كلّ واحد يتلقّى ما يُظهِرُ الروحَ لأجل الخير العامّ. فأحدهم يتلقّى من الروح كلام حكمة، والآخر يتلقّى وفقًا للروح نفسه كلام معرفة، وسواه الإيمان في الروح نفسه، والآخر هبة الشفاء بهذا الروح الواحد، وسواه القدرة على الإتيان بالمعجزات، والآخر النبوءة، وسواه التمييز ما بين الأرواح، والآخر التكلّم باللغات، وسواه ترجمتها، وهذا كلّه يعمله الروح الواحد نفسه موزّعًا على كلّ واحد ما يوافقه كما يشاء" (12: 4- 11). إذًا، الروح واحد، ولكنّ موهبته الواحدة موزّعة على الكلّ بما يوافق بنيان الجسد.

            ما من شكّ في أنّ هذه الرؤية هي وحدها الرؤية الحقيقيّة. وهي تعطينا أن نعرف أهمّيّة كلّ عضو من أعضاء الجماعة. فلا نفضّل وجهًا على وجه، أو موهبة على موهبة، لأنّ كلّ واحد مفيد ونحتاج إليه. والله يحتاج إليه أوّلاً من أجل البنيان. لهذا لسنا بمدرسة، ولا نسند، في اجتماعاتنا، تحضير المواضيع إلى واحد فقط، أي لا نقبل أن نختزلها بشخص مهما كان موقعه، لئلاّ نوجد مساهمين في تشويه المواهب أو إلغائها. نكلّف القادرين على التعبير، المؤمنين بقداسة الحياة، لأنّنا نؤمن بكنيسة المواهب. لا أريد، كما أوحيت أعلاه، أن يفهم أحد أنّ التعليم غير مفيد. حاشا. لقد أرهقنا الجهل رَدَحًا من الزمن، (وهو مازال يضربنا بعنف في غير موضع)، ولا نريد أن نعود إلى عصور مقيتة. التعليم موهبة، ويجب أن نسعى إلى إتقانه، ويجب أن نختار المرشدين الذين يمتلكون التعبير الأرثوذكسيّ ويسلكون بموجبه، ونسهر على إعدادهم وتحصينهم بكلّ ما يحتاج إليه تجديدنا جميعًا. ويجب أن تكون اجتماعاتنا على أفضل مستوى وقادرة على أن تصطاد الناس وتجذبهم إلى محبّة يسوع. هذا، وحده، يُسهم في نشر الاستقامة، ويبعد عن الالتزام وثنيّة قتّالة.

            الفرقة الحركيّة

            وفي هذا السياق عينه، لا بدّ من القول إنّ المكان الأرحب لممارسة الحياة الحركيّة وما تفترضه من وعي وانضباط، هو الفرقة. وهذه تجمع أعضاء يتحرّكون، كلٌّ حسب موهبته، بانفتاح على الكلّ. لا ينعزلون داخليًّا أو يكتفون بأنفسهم. فهذا يشوّه التزامنا وحضورنا. إنّ تمييع الأصول والضبابيّة، في غير مكان، جعلا أنّ بعض الذين يرودون الفرق أو يتردّدون إلى اجتماعاتها، ينتسبون إلى الحركة بغية المعرفة أو التسلية. وبعضهم، هنا وثمّة، لم تعد الفرقة تقنعهم. نحن لسنا بمدرسة ولا بنادٍ أو ما شابههما. نحن حركة نهضويّة. همّنا أن ندرك المسيح القائم، ويتوق كلّ أعضاء الكنيسة إلى قيامته، ويلتحفوا بنوره. نحن نكره الوسخ وكلّ عيب وخطيئة، ليس فقط ما يصيبنا منها شخصيًّا أو نستحليه، بل ما يصيب الجماعة أو يتربّص بها. وهذا ما نجتمع من أجله في الفرق، ويؤكّد دائمًا لزومها. ففي اجتماعاتنا نحن مدعوّون إلى وضع كلّ أوضاعنا الشخصيّة والكنسيّة تحت مجهر الحقيقة، ليُفْتَضَحَ كلُّ عيب وتغلبَهُ الجدّة. نحن ثوريّون، إذا شئتم. أو نكون أخطأنا في العنوان. إن لم نَقلق ونُقلق، لا ننفع شيئًا. "الربّ قريب". ولا وقت للنوم واللعب والمُزاح. فهذا يضحك إبليس. وإبليس لا ينام ولا يلعب ولا يمزح. طبعًا قد يدخل بيننا المتطفّلون، لأنّ أبواب الحركة مفتوحة، ولكنّنا لا ننصاع إلى طروحاتهم إذا كانت مخالفة أو غريبة عن الحقّ، بل نعمل على تحوّلهم في نور الربّ وجدّيّة التزامنا. مَن يأتِ إلينا، لا نخدعه برعاية كذوب، بل نصعقه بالحقّ، حتّى ينطقه الحقّ كلّ جديد، ويعرف موقعه في جسد المسيح. فلنذكر أنّ هؤلاء هم أيضًا حجارة في البنيان، ولقد أعطوا، في معموديّتهم، أن يُسهموا في ارتفاعه. نعيدهم إلى البناء ليرتفع ونرتفع بهم.

            أ- الفرقة في الفرع

            والانفتاح مطلوب من الفرق جميعًا. فالفرقة مجال عملها الأوّل الفرع. وكلّ نشاطاته ومشاريعه تخصّها. لا بل هي تنفّذها. لا يعتبر أعضاؤها أنّهم غير معنيّين، وأنّ مسؤوليّة العمل تختصّ بمجالس الفروع. والفروع، وأعني مجالسها، مطلوب منها الانفتاح أيضًا وحضّ الأخوة جميعًا على كلّ تفكير ومشاركة. عندما تنتدب الفرقة مسؤولاً يمثّلها في مجلس الفرع، هي لا تلغي نفسها. تعضده وتُسهم في نجاحه، وتجعله يشعر بأنّها وإيّاه معًا في خدمة واحدة. وهو أيضًا يشاركها في توضيح كلّ ما تفكّر المجالس فيه. لا أظنّ أنّ فرقة واحدة في جبل لبنان تُطرَح عليها مشاريع مجالس الفروع أو تعطي رأيها فيها قبل أن تقرّ. تُسْكَب عليها القرارات سكبًا، أو لا يعنيها الموضوع. فليس من مجلس فرع واحد (أرجو أن أكون على خطأ) يرسل أفكاره ومشاريعه إلى الفرق قبل أن يقرّها. وهذا كلّه يحتاج إلى توازن جديد وتفاعل حقيقيّ. فلا يمكننا أن نطلب المشاركة ممَّن لم يفكّر أو يعرف. نحن، في كثير من أعمالنا، متفرّدون. ننتقد الفرديّة وهي تعشّش فينا. ونريد الجميع أن يتبعونا. الناس ليسوا نعاجًا، ولا نريدهم هكذا. هم شركاؤنا، شئنا أم أبينا. إذا استقالوا نوضح لهم الأمور. وأمّا إذا كان سلوكنا يقيلهم فنتراجع عن تصميمنا، حتّى لا نشوّه المواهبيّة ونطعن الحقيقة.

            ب- الفرقة في الرعيّة

            أمّا مجال عمل الفرقة الثاني فهو الرعيّة، والشعب الأرثوذكسيّ كلّه. ولا أقصد أنّ أعضاء فرقنا يدعون إلى الالتزام مَن كانوا بعمرهم أو مستواهم العلميّ فحسب، لكن أنّهم أيضًا يعملون على بثّ روح النهضة في كلّ الناس. ولا يخفى أنّ الدعوة تصير في آنٍ بالكلام والسلوك. الكلام وحده لا يكفي إذا كان السلوك مخالفًا. تصوّروا أنّ واحدًا يدعو غيره إلى القدّاس أو إلى اجتماع فرقته وهو يغيب عنه، فماذا تنفع الدعوة في هذه الحال؟! قد يصطاد الله المدعوّ. ولكنّ مَن دعاه يشوّه الدعوة، ويخسر هو بركاتها. أو آخر يحثّ غيره على الانضباط والعفّة وما إليهما وهو مستهتر أو، كما تقول العامّة، "فلتيّ"، أي لا يصون نفسه عن ارتكاب المعاصي؟! والدعوة تفترض تقرّبًا من كلّ الناس. وإذا قلت كلّ الناس، فأعني، بالضبط، الجميع من دون تمييز. إذا زار أحد أعضائنا عائلة يعرفها، ووجد طفلاً ولم يجد شابًّا، مثلاً، فمن واجبه أنّ يكلّم أهله على أسرة الطفولة في فرعه وعلى برامجها ونشاطاتها، وتاليًا أن يحثّهم على إرسال ولدهم إلى الحركة. هذا، بالتأكيد، يفترض أن يعرف أعضاؤنا كلّ ما يجري في فروعهم وأوقات الاجتماعات، إلخ. وبثّ روح النهضة في الرعيّة يتطلّب تخطيطًا كبيرًا يطال القريبين والبعيدين، ولا يقتصر على دعوة مكتوبة ربّما لا يقرأها الناس (لأنّنا عمومًا لا نخصّص دعواتنا)، لكن أن تعمل فروعنا على تحريك الجامدين والبعيدين عبر نشاطات ولقاءات عامّة تجعلهم يفطنون إلى ما أهملوه. فمن المهملين مَن كان قادرًا على "إثراء" الجماعة الكنسيّة إذا رجع إلى الله. وهذا يخدم الوعي. يجب أن يعي الناس أنّهم أبناء الكنيسة الأرثوذكسيّة، في وقت يسبقنا غيرنا إليهم، وأن نستفيد من قدراتهم. والقدرة يمكن أن تكون، مثلاً، ماليّة. أنا لا أعتقد أنّ شبابًا يعيشون بمعظمهم على مسؤوليّة أهلهم يقدرون، مثلاً، على تطوير الخدمة الاجتماعيّة في فروعهم ورعاياهم. الفقراء، في هذا الزمن الرديء، كثيرون جدًّا، ويحتاجون إلى عضد كبير، وهل أفضل من الكنيسة أن تسندهم وتعضدهم؟ ولا ننسى المنفعة الروحيّة التي يجنيها مَن يساعد الفقراء، وتاليًا مَن يذكّر المقتدرين بها. وهذا غير ممكن إن لم نحتّك نحن بالناس ونتقرّب منهم ونكشف لهم كلّ ما يرضي روح الربّ. علينا أن نحرّك الناس في رعايانا ونقودهم إلى المسيح، ولو اعتقد بعض المسؤولين أنّ هذا تطاول. نحن لا يهمّنا إذا اتّهمنا أحد بتقصيره، المهمّ أن يرضى علينا الربّ ولا يتّهمنا هو بالكسل أو التقصير وخيانة الوديعة.

            الخدمة

            لا يخفى أنّ ثمّة شبابًا بالغين عديدين لا يتحسّسون لأهمّيّة الخدمة، أيّة خدمة، وهي موهبة من مواهب الروح. يتعالون على العمل اليوميّ، ويطلبونه من الأعضاء "الصغار". ويبقون أنفسهم للتفكير؟! وهذا تقسيم مَرَضيّ. إذا كانت الخدمة تطلب من "الصغار"، أليس هذا سببًا، لندرك حقّها؟ أَوَ نجهل أنّ المسيح سمّى نفسه الخادم وأنّه غسل أرجل تلاميذه. إذا كان هو الخادم، فهل تكون الخدمة عيبًا؟! أنا لا أقصد، في هذا الصدد، خدمة الفقراء فقط، وهي العمل الأقدس، ونحن، كما أوحيت، مدعوّون إلى إتقانه على غير مستوى. ولكن، كما قلت، كلّ خدمة. تنظيف الكنيسة أو بيت المركز مثلاً. هل نشعر بأنّ هذا من واجبنا، أو نوظّف أحدهم لقداء أجر، لنقول إنّ هذا العمل يُعمل؟ هل نعرف أهمّيّة لقائنا بعضنا ببعض خارج الاجتماعات، في إطار خدمة، مهما كانت بسيطة في ظاهرها؟ وأنّ هذا يفترضه التقارب ومنفعة الضعفاء وكسر كلّ استعلاء؟ فلنأخذ، مثلاً آخر، أنّ فرعًا لا يوزّع نشرة "رعيّتي"، (وهذه خدمة أساسيّة)، ويقبل أن يضعها المسؤولون في الكنيسة على طاولة، ليأخذها الذين يؤمّون الصلاة يوم الأحد. كيف تصل هذه النشرة إلى الذين لا يأتون إلى الخدمة الإلهيّة؟ كيف تصل الكلمة؟ أليست أولى مسؤوليّتنا - كما نعلم جميعنا - أن تصل الكلمة الإلهيّة إلى الناس؟ هل وصول الكلمة شرطه الكلام حصرًا؟ أو أن نقل الكلمة المكتوبة واجب أيضًا، وهو أحد الأدوار المطلوبة منّا؟ طبعًا، نحن ليس همّنا حصرًا أن تصل النشرات إلى الناس (على أهمّيّة أن تصل) ويبقوا بعيدين، ولكن أيضًا أن نحتكّ بهم ليذوقوا حضور الله وقربه. ومن واجب البالغين أن يتمّوا هذه الخدمة ولا يتركوها لمَن هم دونهم قدرة على نقل التحدّي أو التعبير عنه بجدّيّة وبلغة البالغين. هذه فرصة من الفرص التي ابتكرها الروح، ويمكن أن نستعملها للتقارب وتحريك مَن كان جامدًا. والأمثلة، في هذا السياق، يمكن أن تكون كثيرة.

            إطلالة على الرعيّة

            في هذا الموضع، لا بدّ من أن نذكر أنّ العمل الرعويّ، اليوم، يقتصر على الكهنة وبعض الذين يساعدون في المجالس الرعويّة. وهذا، وحده، لا يكفي. اقترابنا من الناس وزيارتهم وتنظيم اجتماعات في منازلهم نقرأ فيها كلمة الله ونشرحها معهم، أمور أساسيّة تساعد على تصحيح التزام المبعدين أو البعيدين. الكنيسة أعضاؤها يرعون بعضهم بعضًا، ولا تتقبّل، في جوهرها، الرعاية من بعض. هذه مسلّمة تحتاج إلى تفصيل، ونحن مدعوّون إلى وضعها أمامنا وتنفيذها. قرأت منذ فترة، في أحد الكتب، شيئًا غايةً في الروعة، وهو أنّ المسيحيّين الأوائل، في روما، قسّموا المدينة إلى أحياء، ووزّعوها على بعضهم، من أجل تبشيرها. بعض الأعمال الجريئة، في غير خدمة، يفترض إتمامها روح تكريس، وهذه الروح موجودة في إخوة كثيرين بيننا. المهمّ ألاّ نقفل على حالنا في الغرف التي نجتمع فيها، وأن نعرف أنّ أرض الرعايا هي مجال واسع للخدمة أيضًا. هذا، طبعًا، يستوجب جهدًا كبيرًا واختيار الأفضل بيننا، وهو يفترض احترام المواهب والمسؤولين والتنسيق معهم، لئلاّ يلحق الخدمة عيب.

            الفروع ونشاطاتها

            ما يُقال عن الفرق، ينطبق على الفروع أيضًا. ولكيلا أقع في تكرار وصف المشاكل، أختار الأصعب، وأعني أنّ المعثرة الكبرى، التي نعانيها، هي الاكتفاء الذاتيّ أو الانغلاق المقيت. وهذا يصيبنا في غير صعيد وفي أصغر الأمور. نحن لم نصر مركزًا بعد. يمكن أن يكون السبب أنّ معظم فروعنا نشأت في إطار عمل المدّ الحركيّ، ولم تعط الوقت الكافي، لتختبر الحياة الحركيّة الواعية قبل أن تُعْلَن فروعًا. لم تفهم بعض فروعنا أنّ الفروع القائمة لا يعني قيامها الحقيقيّ أن يمثّلها رؤساؤها في مجلس المركز، وأن تفتخر بأنّها فروع قائمة وممثّلة في اجتماع المسؤولين، لكن، أيضًا، أن ينخرط أعضاؤها جميعًا في حياة المركز ومشاريعه ونشاطاته. يعلم بعضكم أنّني لست من دعاة زيادة عدد الاجتماعات. فللفروع شهادتها في المناطق التي تعمل فيها. وهذا يحتاج إلى وقت كبير تعطّله أو تحجّمه، بالتأكيد، زيادة عدد الاجتماعات. ولكنّ هذا لا يعني أن نقبل أن يكتفي أعضاؤنا بفرقهم وفروعهم وعملها الداخليّ، ولا أن تعتبر الفروع نفسها حرّة من المشاركة في نشاطات المركز، وأن يفضّل أعضاؤها النشاطات الداخليّة. ما من شكّ في أنّنا نحاول التنسيق بين عمل الفروع وعمل المركز، وذلك لنخرج من هذه الثنائيّة المعيبة. ولكنّ التنسيق يفترض، أيضًا، التزامًا جدّيًّا. وتجد أنّ عددًا من الفروع يقرّر بعض نشاطاته في غياب المركز. وهذا ما يسيء إلى الحياة الجماعيّة. أنا لا أتكلّم على بعض النشاطات الداخليّة التي لا تحتاج إلى العودة إلى المركز، بل على النشاطات العامّة التي تفترض موافقة الجميع. وبتنا، في غير موقع، أسرى بعض النشاطات التي لا روح فيها، أو نعتبرها تراثّا ملزمًا. وهذا نوع من أنواع التفليس ودلالة على غياب الهدف. ليس من نشاط نقرّره، يكون هادفًا، ما لم نضع قبلاً الهدف الذي نتوخّاه منه. فليس المهمّ أن نبدو عاملين، لكن أن نعرف، مثلاً، كم من الجهد يكلّف هذا العمل أو ذاك قبل أن نقرّره، وهل أنّه يخدم الله ورسالته، أو أنّه يعيقها، ويخدم شهرتنا الشخصيّة وانتماءنا إلى قرانا. ما يجب أن نفطن له دائمًا، وأن يكون قرارنا الصميم في كلّ موقع، هو العمل على تحسين أنفسنا والتزام ما هو أساس (الصلوات اليوميّة، الثقافة، الافتقاد، والبشارة). فنحن ننتمي إلى المسيح. وهذا انتماء يفترض أن نكسر أصنامًا عديدة أوشكنا أن نؤلّهها. أن يكون النشاط، نشاطنا، هو الهاجس، وهو أهمّ من التزام الأسس ومن التوافق والتفكير الجماعيّ، أمر يحتاج إلى مراجعة. البالغون لا يقرّرون نشاطاتهم هكذا بسرعة في غياب الجماعة، كما يفعل الأطفال، حتّى لا يقال لهم: لا، ويتعطّل المشروع. هذه فوضى وعشوائيّة لا يسقط فيها المختبرون. نَعَمُنا ليست لها قيمة حقيقيّة إذا قالت الجماعة "لا". لا ينقذ واقعنا إلاّ وعي الجماعيّة التي هي، وحدها، القادرة على انتشالنا من فرديّة مقيتة وكلّ اكتفاء نعتقد أنّه حقّ.

            هذه الحالة ربّما يكون مردّها أنّنا في بعض فروعنا أسرى ارتباط بأعضاء لا نستطيع أن نواجههم بالحقّ، أو نخاف من أن نجادلهم بالحسنى، ونوافقهم كثيرًا في أغلب ما يريدون. ولا نوضح لهم أنّ هذا لا يوافق عليه وعينا، أو ليس هذا من أولويّات مركزنا. وتجد بعض الفروع لا يحترم انتماءه إلى المركز، ويتجاهله، لا لأنّه لا يعرف الأصول، لكن لأنّه لا يريده أو لا يقنعه أو لا يرضي أعضاءه. ونرعى خوفًا من الانقسام، لا لأنّ الرعاية توطيد للحقّ. من الأمور المفرحة، لا شكّ، أن يرتبط رؤساء الفروع بأعضاء فروعهم. ولكنّ هذا ارتباط ناقص إن لم يواكبه ارتباط بالفروع الأخرى وتاليًا بمجلس المركز وقراراته، وأيضًا، وبالإصرار عينه، ارتباط بنشاطات الأمانة العامّة بانضباط كبير وعلى أفضل مستوى. لقد قيل، مرارًا، إنّ اللقاءات مع الفروع المتقاربة، مثلاً، تنفع للتقارب وتبادل الخبرة. هذا نشاط ضروريّ. ولكنّنا نؤجّله، أو لا نضعه في برامجنا، أو نمارسه وقتيًّا ثمّ ننساه. شيء من الوضوح، إذًا، نحتاج إليه من أجل مسلك صحيح، ومن أجل اختبار الحالة الجماعيّة التي وحدها تغنينا.

            إذا أخذنا مثلاً موضوع "المخيّمات"، وهو أحد النشاطات الجماعيّة، فنرى أنّ الفروع تواجهه بآراء متناقضة. بعضنا يريد المخيّمات ويراها لازمة، وبعضنا الآخر يرى أنّها مضيعة للوقت. ونرسل، عمومًا، مسؤولين لا خبرة كافية لهم من أجل أن يقودوا أفواج المخيّمات، أو يتعب القلّة من أجل إنجاحها. من الضروريّ أن ينتهي هذا النقاش، خصوصًا أنّنا قرّرنا أن نبني موقعًا خاصًّا للمخيمّات والمؤتمرات، وأن نعتبر أنّ هذا العمل (المخيّمات) من الأمور التي تساعد على وحدتنا. كيف؟ إنّها فرصة، ليلتقي مسؤولون من فروع عدّة. هذا أوّلاً. وإنّها، تاليًا، تضمّ أطفالاً وشبابًا من فروع مختلفة. هذه فرصة ذهبيّة للقاء يمكنه أن يُسهم في تعميق وحدتنا. هذا إذا استعملناه بشكل صحيح، أي إذا قاده القادرون، وكانت برامجه هادفة. ليس من عمل لا يعتريه خطأ أو أخطاء. ولكن، إذا قدرنا على ضبطه، تكون أخطاؤنا ثانويّة وعابرة، ويمكن حلّها. وكلّ خطأ، متى ظهر، ينفع، لنعرف أن نواجهه بالحكمة. فالأخطاء، أيضًا، يمكن أن تعرّفنا بأنفسنا، وتساعدنا على تحسين خطابنا وسلوكنا وجعلهما واقعيّين. يبقى أن نتعاطى كلّنا هذا الموضوع بروح المسؤوليّة، وأن نعتبره من الأولويّات اللازمة، وأن نصرف لإعداده الوقت الكافي. وهنا، يكون المسؤول عن المخيّمات شخصًا ضروريًّا يمكن أن يتّكل عليه، وأن يُساعد، لينجح. ومن المهمّ أن نعرف أنّ فرعًا يقرّر لأسباب ماليّة أو زمنيّة أنّه حرّ من المخيّم الذي يعدّه المركز، ويمكنه، تاليًا، أن يقرّر تنظيم مخيّم خاصّ، أمر يسيء إلى وحدتنا والأهداف التي نرجوها من مخيّماتنا العامّة. هذا، بالطبع، لا يعني أنّ بعض الفروع، التي تلتزم نشاطات المركز، لا يمكنها أن تقرّر مخيّمات خاصّة تراها ضرورة لها، لكن أن نعطي الأولويّة، وأن نتعاضد، ونبدّد كلّ صعوبة من أجل أن نلتقي معًا في ما نقرّره معًا.

            رئيس الفرع

            هذه العيوب كان يمكن ألاّ تكون، أو أن تقلّ كثيرًا، لو علّينا، جماعةً وأفرادًا، إيماننا بأوّلويّة العمل الجماعيّ. وهذا لا أقوله تنكّرًا للخير الكبير الذي يلهمه الله ويعمله بيننا، بل اشتهاءً للاستقامة الكاملة التي قلت، في مستهلّ كلامي اليوم، إنّها من بركات الروح. ولعلّ ما يجب أن نقف عنده، في هذا السياق، طاعةً للروح وتوخّيًا لاستقامة فضلى في حياتنا اليوميّة، هو مسؤوليّة "رئيس الفرع" ودوره في العمل الحركيّ. وذلك بأنّي مقتنع، اقتناعًا كاملاً، بأنّ رؤساء الفروع قادرون - إذا قبلوا أن يقرّبوا كيانهم كلّه لله - على أن يُسهموا في حلّ كثير من المصاعب وافتتاح عهد جديد دائم في مركز جبل لبنان.

            من المعروف أنّه، في مواقف عدّة، عوّل كثيرًا على رئيس الفرع. وكانت فكرة اجتماع رؤساء الفروع أحد المشاريع التي انتظرنا أن تُسهم في تقريب الإخوة والتفاعل ونقل الخبرات، ويجب أن نصرّ على استمرار هذا الاجتماع لمنافعه ولأنّنا رأينا أنّه يمكن أن يدعم اجتماع المركز، ولو لم يحقّق بعد الأهداف المطلوبة منه. لن أتبسّط في هذه الفكرة، بل سأحصر نفسي بالكلام على دور رئيس الفرع تحديدًا.

            ما هو واضح أنّ رئيس الفرع هو المسؤول، واقعيًّا، عن الحياة الحركيّة في حدود منطقته ومَن ينضمّ إليها. وهو المساهم في تأكيد العمل الجماعيّ وتطويره بمشاركته في حياة المركز ومساهمته في القرارات التي تصدر عنه وتنفيذها ومجلسه وضبط كلّ ما يخالف. صحيح أنّ الحركة رأت إلى أنّ كلّ عضو من أعضائها الملتزمين مسؤول، غير أنّ هذا ما لم يصر واقعًا كلّيًّا، فرجاؤنا وسعينا يصبوان إليه، أو هذا ما يجب. نسمّيه رئيسًا (وهذه صفة غير ملزمة). والرئاسة، في مفهوم العهد الجديد، خدمة. "تعلمون أنّ رؤساء الأمم يسودونها وأنّ أكابرها يتسلّطون عليها. فلا يكن هذا فيكم، بل مَن أراد أن يكون كبيرًا فيكم، فليكن لكم خادمًا. ومَن أراد أن يكون الأوّل فيكم، فليكن لكم عبدًا: هكذا ابن الإنسان لم يأت ليُخدَم، بل ليَخدُم ويفدي بنفسه جماعة الناس" (متّى 20: 25- 28). الرئاسة خدمة مثالها ابن الإنسان. الحمد لله أنّ أعضاءنا لا يتسابقون على الرئاسة، بل، في أحيان كثيرة، يرفضونها أيضًا. وهذا، بتواضع حقيقيّ، يبيّن أنّ مجد الله هو هدف جميع مَن انتسبوا إلى الحركة. لكن، أين نحن من مثال يسوع؟ الخدمة تشريف للرئيس، هي هكذا بسبب الشبه المرجوّ. عبوديّة لله هي، حتّى ينتشلنا الله وينتشل الذين نعمل معهم من كلّ عبوديّة عقيم. والعقم يصيب مَن يرى نفسه شيئًا وفوق الآخرين ويستقرّ في فرديّته وما يرضيه هو. والخدمة مكلفة على غير صعيد. وهي لا تطلب ما لنفسها. يكفي الخادم أن يراه الله. نحن لا نبحث عن مجد في الأرض، وتهمّنا رعاية الإخوة، حتّى يبلغوا نجاتهم، فيرضى الله عنّا وعنهم. ورئيس الفرع خادم الوحدة. يجتمع فيه فرعه والفروع الأخرى فيما يمثّل فرعه في مجلس المركز. وهو ينقل مجلس المركز، في شخصه، إلى الإخوة. تلاحظون هذه المكانة التي نستشفّها من حياة الكنيسة. ولذلك قلنا، مرارًا، إنّ رؤساء الفروع هم منقذو الحياة الحركيّة في جبل لبنان (وفي غير مركز آخر) والذين يقودونها إلى الأمام. وهم، إن أهملوا هذه الثوابت، لا سمح الله، قادرون على تشويهها وتدميرها. ولا يدمّر المرء سوى نفسه، ولو أحرق روما. والله يقيمنا من تحت الأنقاض (إن كنّا تحت)، ولا يأتينا، حصرًا، من فوق الغيوم. ومَن أقيم مسؤولاً، شأنه أن يطيع الله ومشيئته في كنيسة هي، عند الله، العروس الحبيبة.

            من هذه الثوابت يمكننا أن نلخّص دور رئيس الفرع بهذه الأفكار التالية. إنّه:

            1) خادم الوحدة في فرعه

            2) يرعى العمل الحركيّ في حدود فرعه بجهد وصبر كبيرين

            3) يسهر على الفرق وبرامجها بما يتوافق والرؤية الحركيّة

            4) يتابع كلّ عضو من أعضاء فرعه، ويفتقد الجميع بمحبّة مبذولة ومن دون تمييز

            5) يسهر على مشاركة الأعضاء في حياة الصلاة، وهي إحدى وجوه النهضة الكنسيّة، وهذا يعني أنّه يتقدّمهم بمحبّة وإخلاص دائمين

            6) يعمل على امتداد الحياة الحركيّة وتأثيرها في حياة الرعيّة التي يقيم في كنفها

            7) يتفاعل مع الناس، وهم قضيّته

            8) يُسهم في اكتشاف المواهب

            9) يوظّف الأعضاء المقتدرين في فرعه وينتدب منهم مسؤولين للأسر

            10) يشارك في اجتماعات المركز بانتظام، ويتفاعل مع المسؤولين، ويناقش المشاريع وينقل القرارات بأمانة كلّيّة، ويزرع في أعضائه فهم الجماعيّة الواسع

            11) يقدّم القادرين على نقل الفكر النهضويّ للمشاركة في الحلقات والمؤتمرات التي يعدّها المركز أو الأمانة العامّة

            12) يدعم العمل في المدّ الحركيّ، وخدمة البشارة في كلّ الأرض الأنطاكيّة.

            ولا يُحَدُّ دوره في هذه الأمور، فهذه بعض أفكار جزئيّة، ولكم أن تختبروا ما يزيد.

            غير أنّ ما أريد أن ألفتكم إليه، قبل أن أنتقل إلى موضوع آخر، هو أنّ ما اقترحته هنا من الأعمال التي يعملها مسؤول الفرع لا تتمّ من الطريق التفرّد. فالعمل، في الحركة، جماعيّ. ومجلس الفرع في كلّ منطقة دلالة على ذلك. ولكنّ القاعدة، التي شغلتني فيما كنت أتأمّل في عمل المسؤول، هي تلك التي قالها الربّ في إنجيله: "أضرب الراعي، فتتبدّد الرعيّة". المسؤول المضروب يهدّد كيان العمل في المنطقة. ولذلك حصرت، منهجيًّا، نفسي بالكلام عليه، لأنّي، كما أوحيت قبلاً، أؤمن بأنّ هذه المسؤوليّة هي، واقعيًّا، من أهمّ مسؤوليّات العمل الحركيّ.

            مجلس المركز

            أشعر بأنّني أتعبتكم. فأرجوكم أن تعذروني. ولكنّنا مجتمعون، لنتفحّص مكامن أوجاعنا، ونسعى، معًا، إلى معالجتها، لئلاّ تتفاقم، ويصعب شفاؤها أو يستحيل. وهذا يتطلّب منّا جميعًا صبرًا جميلاً.

            ابتغاء الاستقامة عينها، أنتقل إلى مجلس المركز الذي يجمع الكلّ. سأتكلّم على بعض الممارسات المرجوّ زوالها، ومن ثمّ سأنتقل إلى أربع نقاط، وأتناولها بالتتابع، وهي: اختيار المسؤولين؛ علاقة المركز بالمراكز الأخرى؛ العائلات الناشئة؛ وعلاقة المركز ببعض المؤسّسات الكنسيّة في الأبرشيّة.

            مدخل

            ما لا يحتاج إلى تأكيد أنّ مجلس المركز جسم واحد تكوّنه مسؤوليّات متنوّعة يدرك مَن كُلِّفَها أنّه عضو له بعدا التزام، أوّلهما محلّيّ والثاني عامّ أو كلّيّ. الكلّ في هذا المجلس مسؤول عن كلّ شيء، ولو أنّه يحمل مسؤوليّة واحدة. وهذا يؤسّس، أصلاً، في اجتماعات الفرق، ويعمق في اختبار العمل. الفرق مدعوّة، كما أشرت، إلى أن تربّي أعضاءها على الوعي الجماعيّ. وهذا عينه ما يجب أن نسعى جميعنا إليه. وما العيوب التي سأذكرها، بسرعة، إلاّ نتيجة أسباب عدّة، أرجو أن تزول نهائيًّا، ليصفو الالتزام وتقوى الشهادة.

            الأمانة

            من الأمور الخطرة جدًّا التي تخبطنا وتحتاج إلى حلّ جذريّ، أذكر الثرثرة ونقل المعلومات خطأً وعدم إيصال قرارات مجلس المركز إلى الأعضاء وأحيانًا تشويهها والاقتصاص منها وإيصال ما نراه يناسب. لا أريد التجنّي! لكن، ليس من عمل صحيح لا تحكمه الأمانة. مجلس المركز هو المسؤول الأوّل عن العمل الحركيّ في جبل لبنان. هذه مسلَّمة. وهو يضمّ مسؤولين يلتزمون جميعًا اجتماعات المركز لوعيهم أنّها موقع من مواقع التقارب وتبادل الخبرات والتخطيط وأخذ القرارات والتكليف والمحاسبة. وهم يناقشون جميع أمورهم بوعي واحترام كلّيّ، ولو كانوا لا يتوافقون جميعًا، دائمًا، على كلّ قرار يأخذونه. ماذا يعني هذا؟ يعني، باختصار، أنّ القرار قرار هو، ولو كان مَن أسهم في النقاش فيه، قبل إقراره، لم يكن موافقًا عليه. وهذا يقتضي أن يعي كلّ مسؤول أنّ أولى مسؤوليّاته أن ينقل قرارات مجلس المركز إلى أعضاء فرعه، وأن يُظهر، بصدق كلّيّ، أنّ كلّ ما أقرّ هو قراره الشخصيّ. النقاشات لها موقعها. ولكنّ القرارات من الواجب أن تُنقَل بأمانة كاملة. هذا يفترضه النظام والترتيب، وتطلبه الأمانة. لا يجوز أن نخفي قرارتنا، أو أن ننقلها مجتزأة. ومن المعيب أن نشوّه أمورنا وتنوّعنا أو أن نستعملهما للهدم. هذا، للأسف، يصير. ومَن يُسهم في الهدم مشكلته الكبرى أنّه لم يفهم طبيعة البنيان المرتفع الذي يريد إبليس تقويضه. نحن، جماعةً، نخدم الله وحده. وننقل أمورنا بحشمة حتّى لا يعترينا عيب. وفي كلّ شيء، نحاول أن نخدم الوحدة، ونُسهم جميعًا بعضنا في "بناء" بعض في كلّ ما نقوله أو ننقله للأخوة أو نعمله.

            ادّعاء الهيمنة

            نسمع، هنا وثمّة، أنّ ثمّة حركيّين يهيمنون على كلّ شيء. والمقصود أنّ بعض المسؤولين يختزلون غيرهم ويمسكون القرار في الحركة، أي أنّ ما يرضون عنه يمشي وما لا يرضون عنه لا يمشي. أنا لا أعتقد أنّ هذا الموضوع يستحقّ الكلام عليه. فالكلام يعطيه أهمّيّة لا يستحقّها. ولكنّ كلّ ما يقال، سواء أتى من الداخل أو تسرّب من الخارج، يجب توضيحه، ولو على عجل، حتّى لا يسبّب معثرة، ويشوّه الالتزام.

            نحن، في الجبل، إخوة. هذا نهجنا. إذا أخذ المسؤولون دقيقة تفكير وراجعوا اجتماعات مجلس المركز، لوجدوا أنّنا جميعنا نتكلّم بعضنا مع بعض ونناقش أمورنا بطريقة أخويّة حقيقيّة. قد يرفع أحد الإخوة صوته، أحيانًا، على سواه. هذا لا مشكلة فيه. هذا طبيعيّ في سياق الاحترام الأخويّ. ولا أظنّ، وهذا قاله آخرون، أنّ أحدًا في اجتماعاتنا يمنع من الكلام أو المساهمة في النقاشات والعمل الجماعيّ. قد يتكلّم بعض المسؤولين أكثر من غيرهم. هذا لا يعني أنّ أحدًا يختزل الآخرين، أو يحتكر الكلام أو العمل. القصّة ليست مَن يتكلّم أكثر أو يتكلّم أقلّ. الحياة محبّة وفهم وخبرة، وهذه لا يمنعها الصدق وإرادة الخير والبناء، ويُفْرَد لها المكانُ الرحب في مواقع التشاور. والحكيم ليس حصرًا مَن يتكلّم كثيرًا، لكن أيضًا مَن يسمع غيره. ولعلّ الإصغاء أفضل، في أغلب الأحيان، من الحكي. المهمّ أن نُبْعِدَ الأفكار الحسودة، ونرميها في سلّة مهملاتنا. فالحسد يلغي صاحبه، ولا أحد غيره يلغي. الإنسان يلغي نفسه إذا بات سجين ذاته وأفكار حسودة. ولذلك، مَن أكثر في الأقوايل غير المصيبة ونقلها، هو يسيء إلى نفسه ويشوّه الحقيقة. ولنعتبر أنّ بعضًا يهيمنون حقًّا (والله هو المهيمن الوحيد)، فما الخطأ إذا كانوا يعرفون حدودهم، ويحترمون مَن يخالفهم الرأي. المهمّ ألاّ يعطّل وجودُ أحدٍ دورَ غيره. ولا تجهلون أنّ القادة الحكماء هم الذين يفرحون، لا بل يعملون على أن يعي كلّ عضو من أعضاء هذه الحركة أنّه مسؤول في كنيسة المسيح. الحمد لله أنّ مركزنا معظم قادته من الشباب الذين أقامتهم النعمة. وهذه بركة من بركات الروح التي تدلّ على أنّ الشعلة ما زالت مضاءة، وهي تُنقل من يد إلى يد. يجب ألاّ يبقى هذا الكلام المعيب يتردّد هنا وثمّة، ولا أشكّ في أنّنا قادرون على محوه ومنعه من أن يدخل قاموسنا.

            عيب الأحكام المسبقة

            أمّا العيب الجارح، فهو تلك الأحكام المسبقة التي يطلقها بعض على بعض المسؤولين أو بعض المناطق الأخرى. هذا لا يوافق إيماننا بالتعدّد، وإيماننا بالتجدّد أيضًا. أن يشعر بعضنا بأن بعضًا آخر أقفل أذنيه عن كلّ كلام قاله أو يريد أن يقوله وهو ضدّه مسبقًا، أمر يخالف إيماننا بأنّنا جميعنا واحد. الناس، في حدود المحبّة (والتزام العقيدة)، أحرار في كلّ ما يفكّرون فيه أو يقولونه. وإصلاحهم - إذا كانوا مخطئين أو تنقصهم الخبرة - يفترض كثيرًا من المرونة وألاّ نسجنهم في ماضيهم أو أخطاء سالفة صدرت عنهم . فحرب الذكريات من أصعب الحروب التي، إن لم تشرذم، فهي لا شكّ في أنّها ستوقف كلّ تَقدُّم.

            اختيار المسؤولين

            من النوافل القول إنّ مجلس المركز في سياق اختياره المسؤولين يُطلب منه ألاّ يكتفي بتعيينهم، لكن أن يعمل على مساعدتهم لينجحوا، وعلى محاسبتهم إن أهملوا أو أخفقوا. كلّ المسؤوليّات ضرورة ملزمة. ولكنّنا لسنا مضطرّين إلى تعيين مَن كان غير قادر على حمل مسؤوليّته. ربّما لا يكون كلّ ما نحتاج إليه من مسؤوليّات موزّعًا بشكل كامل أو صحيح. فالمركز يمكنه أن يكلّف بعض الإخوة أن يقوموا ببعض المسؤوليّات، ويمكنه أن يعمل جماعيًّا، ليسدّ فراغ أيّ مسؤوليّة، إن كان لا يرى أنّه قادر على تكليف أحد في هذا الوقت. المهمّ، في كلّ حال، أن يكون العمل كلّه من دون عيب، وأن يعرف المسؤولون مكامن ضعفاتهم وأيضًا حاجاتهم، وأن يقودوا العمل معًا بوحدة وسلام، متطلّعين دائمًا إلى مجد الله والخير العامّ.

            العلاقة مع المراكز الأخرى

            الانفتاح ضرورة من ضرورات الالتزام. وهذا ما حاولت أن أبيّنه اليوم في غير موضوع. وما نرجوه أن يعمل مركز جبل لبنان على إنشاء علاقة منفتحة مع المراكز الأخرى. إحدى مشاكل معظم المراكز أنّها غارقة في حدودها وعملها ومشاكلها الداخليّة. لا أقول إنّها لا تسعى إلى مدّ التيار النهضويّ في غير مكان. ولكنّ هذا أيضًا همّ القلّة. وهذا الانفتاح يمكن أن يكون عامًّا، أي يخطّط له المركز، أو خاصًّا عبر لقاءات تقوم بها فرق أو أفراد. إنّ الأمانة العامّة وجه من وجوه لقاء المراكز. غير أنّ ثمّة وجوهًا أخرى ضروريّة. للأسف، ليس كلّ المراكز يشارك رؤساؤها في اجتماعات الأمانة العامّة. وهذا ما يزيد في تباعد المراكز وتعدّد المناهج. من منافع اللقاءات أنّها تساعد على تمتين الوحدة. وكلّ لقاء، في هذا المسعى، من ضرورات الوحدة. ولعلّ ما يميّز العمل الحركيّ عن أيّ تجمّع شبابيّ آخر، هو أنّه يجعلك قادرًا على أن ترى الكنيسة الأنطاكيّة واحدة على صعيد الحياة والتفكير والتطلّع، وأن ترجو وحدتها على غير صعيد. ولقاءات المراكز تنفع، أيضًا، لتبادل الخبرات. التفرّد أو الانعزال يقتلان الالتزام. ولذلكـ كانت الأسر ضرورة من ضرورات الوحدة. وهذه يجب أن نتقن تمثيل أعضائنا في اجتماعاتها. فلا نرضى أن نرسل مَن كان ضعيفًا على مستوى الالتزام، ولو كان متحمّسًّا ووقته يسمح له بالمشاركة. وفي سياق عمل الأسر، من الواجب أن يدعو المسؤولون إخوة من مراكز أخرى، ليتكلّموا، مثلاً، في الحلقات التدريبيّة. فهذا، باعتقادي، ضروري ومفيد، ويعطينا أن نكتسب من خبراتهم، وأن نعرف، أيضًا، هواجسهم وتطلّعاتهم. ما لم تقلقنا الوحدة، فنتحرّك كلو أنّنا نراوح مكاننا. أعتقد أنّ هذا الموضوع جدير بأن نعمله بإتقان. فلا يستقيم مسلك إن اكتفينا بأنفسنا، ولا يستقيم إن لم نتطارحه في لقاءاتنا. اللغة النهضويّة، التي تنشئها كلمة الله ومعرفة مكامن ضعفاتنا وسعينا إلى حلّها، هي، وحدها، باب الاستقامة الرحب.

            العائلات الناشئة

            ثمّ أريد أن أخصّص هذا المقطع للكلام على العمل مع العائلات، وتحديدًا العائلات الناشئة.

            لا تخفى على أحد الصعوبات التي يتعرّض لها المتزوّجون في بلادنا. فمعظم الناس لا يفقهون الزواج ومتطلّباته وأهدافه. بعض الفروع حاولت أن تجمع بعض المتزوّجين الجدد في فرق. وهذا، كما هو مختَبَر، صعب. ولكنّه ضروريّ. ولقد حاول المركز أن يؤسّس لقاء ثابتًا للحركيّين القدامى، ومعظمهم متزوّج. وتعلمون كم لاقى هذا اللقاء استحسان الجميع. باعتقادي أنّ هذا العمل له ضرورات عدّة، أهمّها أنّه يؤكّد أنّنا، في الحركة، لا نؤمن بأنّ الالتزام مرحليّ يخصّ الشباب وما دونه، وأنّ العائلة هي أحد اهتماماتنا الكبرى. نحن لا نهدف إلى أن يكون عملنا موجّهًا إلى الأطفال فحسب. لو كانت عائلاتنا "كنائس" كما يسمّيها القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفمّ، فربّما لا تبقى عندنا حاجة ملحّة إلى أسرة الطفولة. اللَّهمّ إلاّ إذا قلنا إنّ هذه الأسرة يفترضها وعي التربية الجماعيّة التي لا تؤمّنها العائلات الملتزمة منفردة. ولكن، كلّ الناس، مهما كان عمرهم، من مسؤوليّتنا وهدفُنا. العائلة الحديثة تحتاج إلى رعاية الله. هو منقذها من كلّ أمرٍ يُضني. إن أدركنا هذا الحقّ، لا يمكننا أن نهمل العمل مع العائلات. ولقد أوحيت أنّ هذا العمل صعب، وإنّه لصعب جدًّا، لا سيّما إذا كان لدى هذه العائلات أولاد صغار. ولكنّ هذه الصعوبة، أو أيّ صعوبة أخرى، يجب ألاّ تقف عائقًا دون إتمام هذا العمل. نحن مسؤولون عن خلق خبرة جديدة نتبادلها، ولا مانع من أن نستوحيها من آخرين. وفي هذا السياق، يمكننا أن نعمل على خطّين متوازيين. أوّلهما في الفروع، وتاليًا أن ينظّم المركز لقاءً عامًّا، ولو شهريًّا، يضمّ متزوّجين جدد. وأرى، والحال هذه، أنّ المركز يمكنه أن يفكّر في خطّة يدرسها بمساعدة متخصّصين تعنى بإعداد طالبي الزواج، يُسهم في تنفيذها الكهنة وبعض الأعضاء المتزوّجين الذين يشهد لهم روح يسوع والإخوة (ويمكنهم أن يساعدوا في المصالحات الزوجيّة، إن رأى المسؤولون ذلك). هذه، أيضًا، ضرورة يفترضها جهل الناس المتفاقم للزواج. لو كان الشباب طالبو الزواج حركيّين أو ملتزمين كنسيًّا، لما كانت هذه الخطة ضروريّة. الحركة لا يمكنها أن تقف "متفرّجة" أو غير معنيّة أمام المشاكل التي تخبط الناس. هذه مشاكل موجعة حقًّا، وقد تسبّب مهالك جمّة. وتبقى محبّة الله هي الحلّ الذي الحركة من المسؤولين عن توزيعها على المحتاجين إليها، وهم كثر.

            علاقة المركز ببعض المؤسّسات الكنسيّة

            لا بدّ، أيضًا، قبل أن أختم هذا الحديث، من الكلام على علاقة المركز ببعض "المؤسّسات" العاملة في أبرشيّتنا (جوقة الأبرشيّة، مثلاً). يقال إنّنا قساة ولا نتفهّم مَن يخالفنا الرأي. وربّما يكون هذا، في بعض المواقف، صحيح. أنا أعلم الظروف التي أدّت إلى نشوء هذه "المؤسّسات"، وعلى أرض مَن نشأت. هذا ليس مهمًّا، فنحن ليس لنا مكان في الأرض، ولا ندّعي أنّنا نملك شيئًا أو أحدًا فيها. نحن ملك المسيح وخدّامه وخدّام مَن يتعبون، ليتمجّد اسمه. هذه ثوابت لا رجوع عنها. ويفرحنا، في كلّ حال، كلّ عمل نهضويّ، ونعمل، بتواضع، إذا طلب منّا، على دعمه، لينجح. ولا يخفى أنّ الحركة لا تلغي أحدًا، وليس هذا هدفها بالأساس. هي تيّار همّه أن يحبّ البشر القريبون والبعيدون الله، وأن يعودوا إليه ليخلصوا، سواء انضمّوا إلينا أم لم ينضمّوا، أو كانوا منّا وابتعدوا عنّا. ولذلك كلّ تصرّف غير عاقل يصدر عن بعضنا يسيء إلى وجودنا وشهادتنا. وتبقى الحكمة أن ننتفع نحن، أيضًا، ممّا تحمله هذه "المؤسّسات" الكنسيّة من خير ونور. وأقول كنسيّة لأنّها هكذا، ولأنّنا نريدها هكذا. نحن يكفينا أن يكون مرجعها أسقف أبرشيّتنا، لنحبّها ونواكبها ونساعدها على غير صعيد. إنّنا، لعمري، نتعب أنفسنا في كلّ نزاع غير النزاع المطلوب ضدّ إبليس، ونتلهّى عن واجباتنا وعملنا. نحتاج إلى وقت كثير، ليتنقّى كلّ واحد فينا، ويعرف أنّه واحد مع الإخوة القريبين والبعيدين.

            خاتمة

            هذه بعض أفكار رأيت أن نتطارحها في هذا اليوم المبارك. قد تكون تعجّ بالنقد. كم هو صعب أن ينتقد المرء ذاته. عساني لا أكون قد جرحت أحدًا. فهذا ليس المبتغى، بل أن نتوافق على الحقّ الذي هو نجاتنا جميعًا. والسلام.

شارك!

جميع الحقوق محفوظة، 2023
Skip to content