الأب إيليّا متري | Father Elia Mitri

الصلاة جماعيًّا

                ربّما لا تحتاج إلى أن يقنعك أحد بغلاوة التزام الصلاة. وأنا لا أكتب، لأقنعك بما يقنعك، بل لتضع أمام عينَيْك أنّ ما يقنعك جَماله الأعلى أن يبقى يقنعك.

                هل أشكّ في غدك؟

                لعمري، لا.

                أرجو، لا!

                أمّا ما أريده أن يبقى يقنعك، فهذا بعضه.

                أنت تعرف أنّنا نبدأ صلاتنا الجماعيّة، وأعني لا سيّما "سرّ الشكر"، بطلبة تسمّيها كنيستنا "الطلبة السلاميّة الكبرى". وتعرف، أيضًا، أنّ الكنيسة إنّما تريد، بهذه التسمية، أنّ كلّ ما تتضمّنه هذه الطلبة محوره السلام. وهكذا نبدأ الطلبة بسلامٍ نطلبه إلى الربّ. ثمّ نطلب السلام العلويّ للعالم، وللكنيسة، وللذين يصلّون معنا، ولرئيس الكهنة والكهنة والشمامسة، وللحكّام، وللمدن والقرى والأديرة، وللجوّ ليعتدل، وللأرض لتخصب بالثمار، وللمسافرين والمرضى والأسرى، وللعالم لينجو من كلّ حَرَجٍ وغضبٍ وخطرٍ وشدّة. فهذه الطلبة، التي نفتتح بها إعلان دخولنا في "مملكة الآب والابن والروح القدس"، تدلّنا على أنّ أولى مقتضيات الوقوف أمام الله، ملك حياتنا، أن نطلب الخير والسلام للعالم أجمع. والسلام، الذي نقصده هنا، لا يحدّ معناه السلام السياسيّ (أي انتفاء الحروب مثلاً)، بل أن يتصالح الكون كلّه مع الربّ سلامنا. ولذلك نبدأ الطلبة بذكر الربّ، ونبقى نذكره في كلّ طلبة. حتّى نفهم، في نهايتها، أنّنا، مع القدّيسين جميعًا، أمّة واحدة بين يدَي الربّ الواحد الذي يحقّق هو نفسُهُ كلّ ما نطلبه إليه.

                هذا ما أريد أن يغدو جَماله قناعةً راسخةً فيك!

                يا بنيّ، نحن قوم نحمل حياتنا، أفراحنا وأحزاننا، في كلّ لقاء نحجّ فيه إلى الله الذي يجمعنا.

                يا بنيّ، نحن قوم نصلّي ما نحياه ويحيينا.

                يا بنيّ، نحن قوم، كلّما رفعنا قلوبنا إلى الله، نستمدّ منه كلّ ما نبتغي فيه رضاه.

                من هنا، من هذا الأمر الثابت، كلّ ما يعنيني أن تبقى تحيا بموجب صلاة الجماعة.

                إيّاك أن يغرّك، مثلاً، أن تغرّب نفسك بالبحث عن كلمات تصوّر لك أنّها تشبهك، أنّها الأقرب إلى قلبك، أنّها الفضلى لك. فهذا قد يدغدغك أن تفعله، وربّما، ربّما، يدغدغك أن تكتفي به. لا، لعمري، لستُ أرى أنّ المؤمن يعيبه أن يخاطب الله بحرّيّة ما طاب له ذلك، فهذا من صميم تراثنا، بل أرى أنّ العيب، العيب كلّه، أن يكتفي بما يقوله "حرًّا"، أي أن يفصل نفسه عن صلاة الجماعة.

                اجعل نفسك تحت مجهر صلاة الجماعة دائمًا. وقلْ قولها. وقلْ ما شئتَ بعده.

                أريدك أن تعرف، دائمًا، أنّ الصلاة الجماعيّة قيمتها في ما تدلّ عليه، وأن تقرّ في هذه المعرفة. فإنّما صلاة الجماعة ما تدلّ عليه. وخير دلالة، أرجو أن تحفظها أبدًا، أنّ الصلاة الجماعيّة تحرّرنا من وهْمِ الفرديّةِ التي تفتك بإخوة لنا كثيرين. أمّا أنت، فثابر على أنّ صلاة الجماعة، شكلاً ومضمونًا، هي ما يشاء الله أن نكونه باستمرار. لاحظ أنّ عمق ما تطلبه المسيحيّة قائم في اجتماع الإخوة. فهنا الله والجماعة والكلمة الموزّعة والقرابين. وهنا الأيقونة والبخور والموسيقى. وهنا المحبّة في أبلغ معانيها، أي في تقديم المال الذي تجمعه الكنيسة، لتخدم محبّة الإخوة المفتقرين في الأرض. لن تجد، إن اعتبرتَ بأبعاد ما ذكرتُهُ الآن، أنّ ثمّة، في المسيحيّة، ما هو أعمق منه. كلّ أمر آخر إنّما هو تفصيل لما تجده في هذا اللقاء الذي يريدنا الله أن نمدّه إلى حياتنا كلّها.

                بهذا المعنى، الصلاة هي حياتنا دائمًا.

                سأفصّل.

                أنت تعرف أنّ الكنيسة حدّدت لنا، إلى جانب الصلاة الجماعيّة، صلواتٍ، لنؤدّيها يوميًّا. وهذه الصلوات، التي يمارس اليوم منها الملتزمون ثلاثًا (أي: الصلاة السَحريّة والغروب والنوم)، وإن سمّيت فرديّةً، هي، في جوهرها، صلوات جماعيّة. فنحن فيها نصلّي بصيغة الجمع عمومًا. بلى، ترد، في صلوات الجماعة، قِطَعٌ بصيغة المفرد. وهذا لا يبطل ما حدّدتُهُ لك جوهريًّا. فالمؤمن يؤدّي صلاته فيما يؤدّي صلاة الجماعة. كلماتها كلماته.

                ماذا يعني هذا؟

                يعني أنّنا، أينما حللنا أو نزلنا، إنّما نرفع صلواتنا إلى إله الجماعة.

                لو أردتُ أن أصف لك الله في أحبّ صفاته إلى قلبي، لقلتُ لك بسرعة: "إنّه إله الجماعة التي فداها بدم وحيده" (أو إله القدّاس الإلهيّ). ولذلك نحن نحيا دائمًا معًا، أي نحن لا نفترق. نصلّي كأعضاء في كنيسة لا تفترق، أي يبقى أعضاؤها معًا، ولو تفرّقوا، بعد لقاء شكور، كلٌّ إلى منزله وحياته. هذا يعزّز دعوتي إيّاك إلى ألاّ تكتفي بالصلاة التي سمّيتُها "حرّة". فالصلاة الجماعيّة هي التي تحمل، بامتياز، أنّنا لا نفترق. وثمّة أمر آخر، في الصلاة الجماعيّة، أي التي نتلوها فرديًّا، لا يعطي قيمته لأيّ صلاة أخرى مهما بدت صادقةً وملتهبةً، وهو أنّها تجعلنا في وصال ثابت مع القدّيسين المنتصرين الذين نؤمن بأنّهم حاضرون معنا دائمًا. تصوّر، عندما تتلو صلاةً جماعيّةً في البيت، وفي أيّ مكان آخر، أنّك تتلو الصلاة عينها التي يقيمها الإخوة الذين تشاركهم في الاجتماع الشكريّ، والتي أقامها القدّيسون على مرّ التاريخ. تصوّر أنّك تحمل التاريخ والحاضر على منكبَيْك. تصوّر أنّك تتجاوز هذا الزمان من دون أن تلغيه. تصوّر أنّك تدعو إلى الله ضابط الكون وجامعه كلّه.

                ثمّ الصلاة الجماعيّة من قيمها العظمى أنّها تحثّنا على أن نشبهها. فإذا قلنا، مثلاً، قول صاحب المزامير (القول الذي نتلوه في الصلاة السَحريّة وصلاة النوم الصغرى)، أي: "علّمني أن أعمل رضاك"، فالعبارة ذاتها تحرّضنا، وتذكّرنا. تحرّضنا على أن نعي أنّ الصلاة لا قيمة لها إن لم نرضِ الله في حياتنا كلّها. وتذكّرنا بأن نسترجع هذه القيمة إن تجاوزناها. وهكذا إن قلنا "ارحمنا، يا ربّ، ارحمنا، فإنّنا كثيرًا ما امتلأنا هوانًا، كثيرًا ما امتلأت نفوسنا عارًا"، نرمي ثقلنا أمام قدمَيْ إله رحيم نؤمن بأنّه القادر، وحده، على أن ينقلنا من العيب إلى صحّة الالتزام. وهكذا دواليك.

                هل تعرف؟

                أنا أجترئ على القول لك إنّني أعرف أنّ أكثر ما يتجاوزه المؤمنون، اليوم، هو أن يصلّوا. ما أرجوه أن تبقى على وصالك بالربّ إله الجماعة. والصلاة وصال، كما تعلم. إيّاك أن تعتقد أنّ ثمّة وحدةً ممكنةً بالله من دون أن نرفع قلوبنا إليه. لا ترمِ نفسك في علاقة بالله يحدّها ما تعرفه عنه ذهنيًّا. عوّد ذهنك أن يرتقي إلى الله الحاضر دائمًا، أي عوّده أن يستقرّ في قلبك. واطلب، من كلّ قلبك، أن "يرحمك ربّنا يسوع المسيح ابن الله الحيّ". اطلبها دائمًا، في الليل والنهار. تشبّه بقول المنشِد: "أنا نائم، وقلبي مستيقظ". فإنّك، إن فعلتَ، تستبق الزمان الآتي الذي سيضمّنا الله فيه إليه. فالزمان الآتي كلّه صلاة. وكلّما فعلتَ، افعل بلجاجة. فأنت لا يمكنك أن تسكن دفء الله، إن لم ينعم هو عليك بدفئه. بدفئه، أو بنعمة روحه، يبقى المعنى واحدًا. كلّ مَنِ اختبر الصلاة يعرف أنّه ابتدأها بأن منحه الله دفئًا طيّبًا. وهذا يجعلنا نصلّي من خبرة دائمًا، ويحضّنا، تاليًا، على أن نعرف ما نريده في الصلاة. اطلب، دائمًا، دفء الروح القدس. وإن رأيتَ نفسك باردًا، فلجّ على الله ما استطعت. لجّ عليه، ليرمي عليك وشاح دفئه، فيتركك البرد. إنّه يراك في لجاجتك، ويفرح بك. وإن تأخّر، فلا تحسب أنّ أمرك لا يهمّه. لجّ، لجّ أكثر. فـ"الربّ قريب". لجّ، ولا تشترط عليه شيئًا. فقط، اطلب أن يدفئك روحُهُ الحيّ. وسلِّم نفسك إليه. ثمّ ضعْ حياتك وحياة مَنْ تحبّهم بين يدَيْه. فلا تنسَ أنّ صلاتنا جماعيّة. وجماعيّة يجب أن تعتقد أنّها تعني، أيضًا، أن تصلّي لكلّ مَنْ تحبّهم ويحبّونك، ولكلّ مَنْ يظهرون أنّهم لا يحبّونك.

                يا بنيّ، اذكر، دائمًا، ما نقوله في الطلبة السلاميّة الكبرى. فإنّنا فيها نضع الكون كلّه تحت رعاية الله الواحد.

                يا بنيّ، التزم ما نقوله، وزدْ ما شئتَ، وافرح.

 

شارك!
Exit mobile version