الشهادة المسيحيّة لا تتعلّق بزمن محدّد، وإن اشتدّت ضرورتها في الأزمنة الحرجة. المسيحيّ شاهد. هذا في تكوينه الطبيعيّ، أي العماديّ. تحرّكه شهادة يسوع الذي مات حبًّا. يأتي منه، من كلامه ودمه. ولذلك لا يميّز المسيحيّ بين شهادة الكلام وشهادة الحياة "حتّى بذل الدم" (عبرانيّين 12: 4). هما، عنده، صنْوان.
ربّما يكون هذا الكلام، للكثيرين، غريبًا عن المألوف. فزماننا الحاضر توغّل في الحطّ من قدر محبّة الآخرين أيًّا كانوا، وأرسى الفرديّة نهجًا عامًّا، أو يكاد. والشهادة، في واقعها ومداها، امتداد نحو الآخرين من أجل المساهمة في مدّ خلاص الله. أنت، شاهدًا، إن تكلّمت بالحقّ أو بذلت دمك من أجل إعلان الحقّ، إنّما تفعل، لتخلص، ويخلص بعضٌ أو كثيرون. المسيحيّ شخص ممتدّ نحو الناس حبًّا. يستقي امتداده من كلماتٍ من نور، ومن كأسٍ يرفعُهُ ارتشافُها إلى أبدٍ هو كلّ الوجود. لا تمنعه من الامتداد ظروف مهما حلكت. ولربّما الظروف الحالكة من خواصّها أنّها تُظهر الموقف الثابت. إنّها كالنار التي تمحّص الذهب، أي تميّزه عن كلّ ما عداه.
الدنيا ظروف. هذا لا شكّ فيه. ظروف تطلقُ معظمَها الحياةُ في تغيّراتها. وأنت فيها حرّ، بمعنى أنّ ما/مَنْ يثير التغيّرات لا يضطرّك إلى جمود. حرّ، أي متحرّك دائمًا. حرّ، أي تمشي في النور مهما كان الليل بهيمًا. حرّ، أي حرّ. تأتي من نفسك، أو من قناعتك، أو، وهذا الأعلى، من حرّيّة إله يحكم نفسك الحرّة وقناعتك الحرّة. الحريّة نبع الشهادة. بمعنى أنّها فوق الظروف مهما تغيّرت وصعبت. وأنت، بها، تنعطف على أيّ ظرف. تسوده، ولا يسودك شيء في دنياك أو منها. تهبك الحرّيّة، شاهدًا، أن تحاكي إلهك الذي قضى على الموت بمظاهره كافّة. لا تُعتَلن الحياة في الدنيا سوى في مَنْ رأوا بأمّ أعينهم أنّ "القبر فارغ".
في كتاب "السلّم إلى الله"، يعلّي أبونا البارّ يوحنّا السلّميّ وصول يوحنّا الرسول إلى قبر السيّد قَبْلَ رفيقه بطرس (يوحنّا 20: 3 و4). ويرى، في هذا الوصول، أنّ "الطاعة قد تقدّمت على التوبة" (المقالة الخامسة). معظمنا يعلم أنّه لم يُكتب في المسيحيّة، على مدى أجيالها، عن أمر كما عن التوبة. ولو أنّها غابت لفظًا عن النذور الرهبانيّة (العفّة والطاعة والفقر والصبر) مثلاً، تبقى هي حياة الرهبان وحياة أعضاء الكنيسة كافّة و"درس عمرهم" (غروب عيد القدّيس البارّ إفرام السريانيّ). صحيح أنّ التوبة، بمعانيها العامّة، تفترض رجوعًا عن الخطيئة. ولكنّها تعني، أيضًا، أن ترى ذاتك عاريًا أمام إله ممجَّد. إله لا يمكنك أن تقاربه سوى بالنعمة التي يسبغها عليك. تتوب، أي ترجو أن يهبك الله نعمه التي تجعلك قادرًا على أن تشاركه في حياته. إلى هذا، إعلاء الطاعة، ولا سيّما في أدب السلّميّ، دلالة على ثبات الوعي. تُخلِص الطاعة، أي تأتي من إله تغريك كلماته ودمه، وتثبت على حبّه دائمًا. لقد أخطأ بطرس بنكرانه المعلّم، وعاد. وهذه عودة محمودة. ولكنّ يوحنّا مكّنته طاعته من أن يبقى على صدر المعلّم، فيصل إلى حيث يجب. إنّها القربى العالية التي تؤهّلك لأن تتجاوز كلّ صعوبة، وترى، لتقول حبّك ببلاغة. الشهادة بلاغة توبة أو بلاغة طاعة، ولو أنّ الثانية أعلى.
إذا استرجعنا، بسرعةٍ، الظروف التي سبقت عَدْوَ هذين الرسولين باتّجاه قبر السيّد، ماذا نرى؟ نرى خوفًا مسيطرًا. التلاميذ كانوا كلّهم مختبئين خوفًا من اليهود. الخبر، الذي أتاهم، أنّ القبر فارغ جعل اثنين منهم يخرجان من الغرفة التي كانوا فيها، ويطفران كالأيّل. "التلميذ الآخر سبق بطرس"، وقال السلّميّ ما قاله. ولكنّ الخروج إلى السيّد الحيّ يبقى هو القاسم المشترك ما بين توبة بطرس وطاعة يوحنّا. أنت، إن تبت إلى الله أو حييت على طاعته، فدعوتك الواحدة أن تخرج إلى قبور التاريخ، لتشهد على فراغها الذي أتمّه ربّك. كلّ شهادة تفترض خروجًا. العالم، وإن أتى بعضه إليك، لا يأتي كلّه. فقد يمنعه تعنّته. قد تحبوه عن ذلك أفكارٌ مريضة تقنعه، أو أيُّ أمر آخر يحسبه صحيحًا. إن لم تخرج، وترَ، لا تقدر على أن تدلي بدلوك ببلاغة الشاهد تائبًا مطيعًا. كان من الممكن أن يُلقى القبض على الرسولين فيما كانا "يسرعان السير معًا" على الطريق. الشهادة لا يمنع إتّمامها أيّ خطر محدق. بلى، معظم الرسل استُشهدوا. وهم ما كانوا يفعلون لولا أنّ بلاغة موت معلّمهم قد أقنعتهم بأنّه "لا موت ولا حياة، ولا ملائكة ولا أصحاب رئاسة، ولا حاضر ولا مستقبل، ولا قوّات، ولا علوّ ولا عمق، ولا خليقة أخرى، بوسعها أن تفصلهم عن محبّة الله التي في المسيح ربّنا" (رومية 8: 39). ماذا يعني هذا؟ يعني أنّ الشاهد، الذي فتنته شهادة سيّده، شأنه أن يخرج إلى جراح التاريخ، ليضمّدها ببلاغة رؤية راهنة. لقد شفانا السيّد بدمه، لنسعى إلى أن نشفي، بكلامنا أو بدمائنا (لا فرق)، العالم الذي جرّحه القهر والخوف والقلق والموت. لا يقدر مسيحيّ يؤمن بأن ربّه قد شفاه أن يكتفي بوصف جراح العالم التي يراها. المسيحيّ شخص لا يتحمّل الجروح. إنّه، بمعنى، طبيب العالم. الشاهد طبيبُ عالمٍ جروحُهُ ظاهرة.
هل ما أقوله "وصفة مشعوذ"؟ بكلام آخر، هل يعني هذا أنّ المسيحيّ لا يتعب، فينكفئ؟ لا يحتمل هذا السؤال جوابًا واحدًا. كان الأسهل لي أن أجيب أنّه لا يفعل. كان الأسهل أن أقول، بفظاظة، إنّ من يتعب فينكفئ ليس بمسيحيّ؟! ولكنّ هذا الجواب قاسٍ ملؤه الكبرياء. إنّه يجعل المسيحيّين من غير لحم ودم. ولكن أيضًا، أليس من سرّ للمسيحيّ الحقيقيّ؟ بلى، له سرّه. وسرّه أنّه يعرف كيف يقوم إن تعب وانكفأ، إن خاف وانكفأ. ليس للمسيحيّ سرّ سوى أنّه يعرف أنّ الله يحبّه. ويحبّه، أي أيضًا كلّفه بأن يطرح عنه كلّ خوف فيه وفي العالم. لقد خرج الرسل بعد أن كانوا منكفئين. وأعطاهم روح الله، الذي اعتصموا به، أن يبيّنوا قوّتهم بدمائهم، أي أن يشهدوا أنّهم أحياء بإله حيّ. لستُ أقول هذا حبًّا بالموت، بل حبًّا بإله قادر على أن يرينا نفسه على دروب تاريخنا، حبًّا بمن يسود المدى والزمان، ويريد أن يسودهما في مَنْ يحبّونه. المسيح حاضر أبدًا. هذا سرّ من يحبّونه وقوّة شهادتهم.
الشهادة المسيحيّة تتعلّق بأناس قرّر ربّهم أن يحبّهم، ويبيّن للعالم، في كلّ زمان ومكان، أنّه، فيهم، سيّد العالم ومخلِّصه.