مِنَ الوصايا المربّية، التي حضّ الرسول المؤمنين عليها، قوله: "لنسر سيرةً كريمةً في وضح النهار. لا قَصْف ولا سُكْر ولا فاحشة ولا فجور ولا خصام ولا حسد" (رومية 13: 13؛ راجع: مجموعات أخرى للرذائل حذّر منها العهد الجديد، ومنها: مرقس 7: 21 و22؛ غلاطية 5: 19- 21؛ كولوسّي 3: 5- 9). وهذه الوصيّة، التي يعنينا معناها هنا، تختصر مقطعًا عن التيقّظ، جاء بعد تذكيرٍ بالمحبّة التي هي "كمال الشريعة".
مَنْ أحبّ الله حبًّا جمًّا، وحيا ببرّ خلاصه (أي "قام مع المسيح")، دعوته أن يبتعد، دائمًا، عن كلّ خطيئة نتنة تظلمه وتميته، وأن يسير، بنباهة، "في وضح النهار"، أي أن يكون "نورًا في العالم" (متّى 5: 14؛ أعمال الرسل 13: 47؛ فيلبّي 2: 15؛ أفسس 5: 8؛ 1تسالونيكي 5: 5). هذا ما أكّده الرسول، بقوله: "لنلبس سلاح النور" (الآية الـ12)، الذي هو الربّ يسوع المسيح (الآية الـ14؛ قابل مع: يوحنّا 1: 8 و9، 3: 19، 8: 12، 9: 5، 12: 35 و48). وَمَنْ لبس الربّ سلاحًا، أي حاز كلّ ما يمكّنه من البرّ والانتصار على الشرّير وشروره، لا يليق به أن يسقط في جهاده ضدّ الخطيئة، ولا عذر لسقوطه.
إذًا، همّ الرسول، في ما أوصاه، هو سلوك المؤمنين اللائق بالله، أو بانتسابهم إلى "ملكوته ومجده" (1تسالونيكي 2: 12). فشأن المؤمن، الذي انتسب إلى مَنْ "لم يرتكب خطيئةً ولم يوجد في فمه غشّ" (1بطرس 2: 22؛ وانظر أيضًا: 2كورنثوس 5: 21؛ 1يوحنّا 3: 5)، أن يتشبّه به في حياته. وهذا التشبّه هو الذي يفضح الشرّير وألاعيبه، ويعطينا نعمة أن ننتصر عليه.
الخطايا الستّ، التي عدّدها الرسول في هذه الوصيّة، هي رمز للشرّير المغلوب. فالمؤمن ينطلق، في جهاده، من أنّ الربّ، لمّا علِّق على الخشبة، قضى على الشرّير. خطايا ستّ، أي ناقصة. ومهما بدت كاملةً أو مقتدرةً، يعرف المؤمن أنّه، بلبسه "سلاح النور"، أقوى منها، لأنّ الربّ أقوى من كلّ شرّ وشرّير.
أوّل خطايا القائمة هو "القَصْف". واللفظة تعني الإقامة في الأكل والشرب واللهو. وهذه كلّها نوع من أنواع الغرق في العالم. ولا يعني الرسول، بهذه الخطيئة، أنّ المؤمن لا يأكل ولا يشرب، أو لا يتسلّى للمنفعة بتاتًا، فهذه أمور شرعيّة يحتاج إليها كلّ إنسان يحيا في العالم، لكن أنّه لا يقيم فيها، أو لا يجعلها هاجسه. فالشرّير يدخله ممّا يبدو له شرعيًّا. فإذا استسلم المؤمن للعالم وملذّاته، صار طريدةً سهلةً للشيطان، وسقط في حبائله. قيامه رهن بوعيه. والوعي الكامل ألاّ يهمل المؤمن، لحظةً، أنّه يحيا لله وحده. بعد القَصْف، السكر. وهذه الآفة، التي تتبع زميلتها الأولى، تؤكّد، بشكل أبلغ، الاستسلام للعالم. ولا يعني الرسول، أيضًا، أنّ المؤمن لا يشرب الخمر البتّة (1تيموثاوس 5: 23)، بل لا يسكر، أو لا يشرب الخمرة التي "تدعو إلى الفجور" (أفسس 5: 18). فالسكر فيه ضياعٌ وسخريّة (أمثال 4: 17، 20: 1، 23: 20 و29- 35، 31: 4 و5). وَمَنْ أضاع وعيه، لا يمكنه أن يركّز على مقتضيات خلاصه. الخطيئة الثالثة هي الفاحشة. والفاحشة هي كلّ أنواع الفساد الإباحيّ. فَمَنْ يُقِمْ في هذه الحياة، أكلاً وشربًا ولهوًا وسكرًا، لا يقدر على أن يمنع نفسه من أيّ أمر قبيح قولاً وفعلاً. فالأكل واللهو والضياع يسوقه إلى الفحش. وهذه الخطيئة يتبعها الفجور، أو العهر. والفاجر هو مَنْ مال عن الحقّ، أي مَنْ سقط في كذب، أو زنًى، أو كفر. وَمَنْ كان فاجرًا، قاد نفسه إلى الخطيئة الخامسة، أي إلى الخصام. والمخاصم هو مَنْ رفّع نفسه، وقضى حياته في المجادلات والنزاعات (أمثال 13: 10، 17: 19). وهذا طبيعيّ، لأنّ مَنْ انقاد إلى هذه الخطايا كلّها لا تبقى عنده قيمة لسلام الله، ولا يقدر على أن يسالم أحدًا. يفقد سلامه، ويكثر شغبه. وَمَنْ حمل في قلبه هذه الشرور جميعها، يسوق نفسه إلى الخطيئة السادسة، وهي الحسد. والحسود هو مَنْ ينكر على الآخرين نعمهم، أي مَنْ يتمنّى زوالها وتحوّلها إليه. وهذه قمّة خطايا هذه القائمة التي تبيّن أنّ الشرّير همّه الأخير أن يفصل الناس عن الله، وأن يفصلهم، تاليًا، بعضهم عن بعض. وكلّ هذه الخطايا، التي طلب الرسول من المؤمنين أن يبتعدوا عنها لتكون سيرتهم كريمةً، تناقض الخلاص، أو النور، لأنّها تعيد الساقطين فيها، أو في إحداها، إلى الليل، أي إلى الظلمة التي أخرج المسيح أحبّاءه منها، وأوصاهم بألاّ يدخلوها ثانيةً.
هذه الشرور إنكار لخلاص المسيح. فَمَنْ ارتضى خلاصه، جنّد نفسه له في العالم الذي يحيا فيه. ولا يبرّر المؤمن أنّ هذا العالم تتأكّله الخيانة بمجمله. فالرسول يدعونا إلى أن تكون "سيرتنا كريمةً" في هذا العالم البهيم. وهذا يفترض حقّه أن نعرف أنّ الخطايا، وإن بدت حلوةً، فإنّ مذاقها مرّ ومميت (أنظر: تعليم الرسل الاثني عشر 5: 1- 3). وما ينجّينا منها إنّما هو إيماننا بأنّ المسيح سلّحنا بنوره، لنقتدر، ونغلب، ونحيا. النور هو المعرفة كلّها. ولا يعذر المؤمن أن يختبر الخطيئة، ليعرف شرّها، ويتوب فعلاً! فلا أحد يلامس النار، ليعرف أنّها تحرق. وَمَنْ سلك في النور، أو لبسه بنباهة كلّيّة، وبقي على إخلاصه يومًا بعد يوم، يختطفه الربّ، في مجيئه الأخير، ويعرف نفسه فيه. هذا هو رجاء الذين يلبسون النور، ويسيرون فيه، ومكافأتهم.