12يناير

السراج المنير

بعد أن شفى يسوع مقعد بيت ذاتا يوم السبت، اشتدّت نقمة اليهود عليه، وأرادوا قتله. رأوا أنّه خالف بتجاوزه شريعة السبت، وتاليًا بمساواته نفسه بالله (يوحنّا 5: 16- 18). فردّ عليهم الربّ بحديث طويل عن علاقته الخاصّة بالله أبيه، قال لهم فيه: "أنتم أرسلتم رسلاً إلى يوحنّا (المعمدان) فشهد للحقّ / وأمّا أنا، فلا أتلقّى شهادة إنسان / ولكنّي أقول هذا لتنالوا الخلاص / كان يوحنّا السراج الموقد المنير / ولقد شئتم أن تبتهجوا بنوره ساعةً. / أمّا أنا، فلي شهادة أعظم من شهادة يوحنّا: / إنّ الأعمال التي وَكَلَ لي الآب أن أُتمّها / هذه الأعمال التي أنا أعملها / هي تشهد لي بأنّ الآب أرسلني" (5: 33- 36).

                ماذا أراد يسوع بهذه العودة إلى شهادة المعمدان؟ إذا قابلنا بين ما قاله هنا وما قاله نبيّه قَبْلاً (راجع: يوحنّا 1: 19- 34)، لا نجد، في الواقع، أنّ يسوع قد اكتفى بالدلالة على مضمون ما تلفّظه يوحنّا فحسب، بل نلقاه، أيضًا، يكلّمهم عليه شخصًا وعلى نفسه أيضًا. وهذا، أوّلاً، يبيّنه وصفه المعمدان بأنّه "السراج الموقد المنير". وهذه الصفة توضح ما قاله يوحنّا الإنجيليّ في مطلع إنجيله، أي قوله في المعمدان نفسه: "لم يكن هو النور" (1: 8). كان الإنجيليّ يهيّئ قرّاءه، ليتكلّم على "النور الحقّ الذي ينير كلّ إنسان" (1: 9)، أي يسوع. أمّا هنا، فدلّ الربّ على أنّ ليوحنّا بعض نور زُرع على دروب الناس، ليدركوا سبيلهم. لم يناقض القول إنّ يوحنّا لم يكن النور الحقّ، بل ذكّر بمهمّته عينها، وإن بلفظ جديد. فقوله كان سراجًا يبيّن مهمّته، أي شهادته. وممّا يبديه، أيضًا، أنّه ذكّر اليهود، الذين يحدّثهم، بأنّهم شاءوا أن "يبتهجوا بنوره ساعةً"، أي أنّهم أخطأوا بعدم استرشادهم به، ليصلوا إلى خلاصهم (أي إلى يسوع نفسه).

                هل شهادة الآب تذكّر بما جرى يوم معموديّة يسوع التي لم يذكرها يوحنّا، حرفيًّا، في إنجيله؟ يجب أن نراها تذكّر. فشهادة الآب الأعظم من شهادة المعمدان، التي تظهر في أعمال كلّف يسوع أن يتمّها، هي قائمة أيضًا، كلّيًّا، في قوله فيه: "هذا ابني الحبيب" (أنظر: متّى 3: 17؛ وما يوازيها). هذا سمعه اليهود من فم يوحنّا يوم شهد للمسيح أمامهم: "وأنا رأيت (الروح ينزل عليه)، وشهدت أنّه هو ابن الله" (يوحنّا 1: 34). ويجب أن نبقى نذكر أنّ هذا الحوار قد تمّ في جوّ مأساويّ بيّنته نقمة اليهود ونيّاتهم القاتلة. فشهادة يوحنّا قد أدّت إلى قتله. وأعمال يسوع ستقوده إلى الموت. وليس من أمر يفوق عظمة موت يسوع الذي سيهبنا الآب فيه الحياة الأبديّة. هذا كلّه يجتمع في قول عماديّ آخر، لفظه يوحنّا المعمدان أيضًا، أي "هذا هو حمل الله" (يوحنّا 1: 35). لقد قال يسوع، يوم أتى إلى المعمدان يعتمد، "هكذا يحسن بنا أن نتمّ كلّ برّ" (متّى 3: 15). ماذا أراد بكلّ برّ؟ موته وقيامته، أي الحدث الذي يتمّ الله فيه كلّ شيء. هذا هو البرّ الذي يفوق برّ معموديّة الماء التي كان يوحنّا يجريها. فالأعظم هو أنّنا، في ابن الله الوحيد، قد نقلنا الآب من العهد القديم إلى العهد الجديد. لقد كان الناس، قديمًا، بتقديم حملانهم، يرمزون، ويأملون. أمّا الآن، في هذا الحمل الجديد الذي قال الله فيه: كفى، انتهى زمن الحملان القديمة، فالعالم كلّه يُصالح أبدًا. هذا هو الوسيط الوحيد (1تيموثاوس 2: 5) الذي يؤهّلنا لأن نتّحد بالله، أي ننتقل من الرمز إلى الخلاص الحقّ.

                السراج المنير، إمّا تمشي في هديه إلى غاية موضوعة، وإمّا تطفئه، وتقبع في الظلمة. ماذا فعل اليهود؟ كرهوا الغاية، واختاروا العتمة مسكنًا. ولكنّ المدهش، في قول يسوع، أنّه ما زال يريدهم أن يرحموا أنفسهم. قال لهم كما رأينا: "ولكنّي أقول هذا لتنالوا الخلاص". وليس من إثبات أعلى من هذه الوادعة على أنّه حمل الله! لكنّ اليهود لم يبتهجوا بيسوع لحظةً. دغدغهم يوحنّا، وابتهجوا بنوره ساعةً. وأمّا الربّ، فأثارهم، فنقموا عليه من فورهم. اعترضوا على أنّه شفى في السبت. أمّا هو، فكان يريد أن يشفيهم من السبت بإظهاره أنّه "ربّ السبت" (متّى 12: 8). ربّ السبت، أو مساو لله أبيه، المعنى واحد. وأنّى للقابعين في الظلمة أن يصلوا إلى غاية خلاصهم؟ وأنّى للذين أطفأوا السراج، أن يسيروا نحوه؟

                إن راجعنا إنجيل يوحنّا لنرى الأعمال التي أتمّها يسوع قَبْلَ هذا الحوار، فإذا تركنا آية قانا الجليل (1: 1- 11) وحواره مع نيقوديموس (2: 3: 1- 21) والمرأة السامريّة (4: 4- 26)، فلن نجد سوى عملين يكشفان شفاء الجسد: شفاء ابن عامل للملك (4: 43- 53)، وشفاء المقعد (5: 1- 15). ما قيمة هذين العملين؟ قيمتهما أنّ الأوّل يشير إلى شفاء فتًى أمميّ، والثاني إلى مريض، إن لم يكن أمميًّا، فيدلّ زمان مرضه (ثمانٍ وثلاثون سنةً) على المدّة التي قضاها شعب إسرائيل في الصحراء، أي على اليهوديّة بأسرها التي لم تنتقل إلى أرض الميعاد. هذه هي شهادة الآب الأعظم من كلّ شهادة: أنّ يسوع، هو هو، مخلّص العالم (يوحنّا 4: 42)؟ أنتم لم تدخلوا "الأرض"، كما لو أنّ يسوع يقول لهم. أنتم ما زلتم قابعين في ظلمة الصحراء. أنا أرض ميعادكم الجديد. هذا، مقبولاً، يجعل سراج يوحنّا المنير يفرض ذاته بقوّة هنا. فلقد أتى يوحنّا، ليدلّ العالم كلّه، ولا سيّما اليهود، إلى طريق خلاصهم الجديد، أي إلى يسوع الذي هو الطريق إلى أبيه (يوحنّا 14: 6). وهذا، تاليًا، يجعل يوحنّا سراجًا، أي إصبعًا. أمّا يسوع، فيبدو الأعظم، أي الكلّ.

                لقد أظهر يسوع، قَبْلاً، عدم اطمئنانه إلى اليهود (يوحنّا 1: 24). وإن حاورهم، فوداعة منه. قال لهم إنّه لا يحتاج إلى شهاد يوحنّا، أي قال إنّها لكم. ويقول لنا، اليوم، إنّها لنا، لتأتوا إليَّ، وتبتهجوا أبدًا.

--------------------------------
(نشر المقال في نشرة "رعيّتي" التي تصدرها مطرانيّة جبيل والبترون (جبل لبنان) )

شارك!

جميع الحقوق محفوظة، 2023
Skip to content