الأب إيليّا متري | Father Elia Mitri

الرغبة في الرئاسة

في الرسالة الثالثة، يوبّخ يوحنّا الرسول شخصًا، اسمه ديوتريفُس، بقوله عنه: "يرغب في أن يكون رئيسًا عليهم" (الآية الـ9). فما الذي دفع يوحنّا إلى أن يُطلق هذا التوبيخ في رسالته؟

ما يبدو مرجّحًا أنّ ديوتريفُس كان رئيسًا على الجماعة التي استلمت هذه الرسالة. ولكنّه رئيس شقّ العصا برفضه أن يعترف بسلطة الرسول الذي كلّف بعض المبشِّرين المتجوّلين أن يعرّفوا الأمم باسم الربّ يسوع مخلّصنا (الآية الـ7). وهذا تُبيّنه العبارة التي تختم الآية التاسعة عينها، أي: "لا يقبلنا". فـ"نا" الجماعة، هنا، تدلّ على يوحنّا والذين التزموا تكليفه. ويظهر، في هذه العبارة، الفرق شاسعًا بين واضع الرسالة الذي يعتبر نفسه واحدًا مع الإخوة، وديوتريفُس الذي كلّ همّه أن يعلو على الكلّ.

طبعًا، لا يأتي يوحنّا، في توبيخه، من بنات أفكاره، بل يتكلّم واضعًا أمامه صورة الربّ، "رئيس ملوك الأرض" (رؤيا يوحنّا 1: 5)، الذي تنازل إلى أن يكون الخادم الأوّل في جماعته (لوقا 22: 24- 27). جرحه أنّ ديوتريفُس، في موقفه المستغرَب، قد أهان "الصورة". رآه يأبى أن يتمثّل بربّه. رآه مستكبرًا تعنيه نفسه، أو موقعه فحسب. فأطلق توبيخًا قاسيًا لن تخفى على ديوتريفُس مقاصده. لم يقل الرسول له، حرفيًّا، إنّ رئاستك، يا سيّد ديوتريفُس، قد سقطت بإهمالك أنّك "أيقونة" للمسيح. لكنّ ما قاله يشبه ذلك كلّيًّا. لا، لم يخاطبه مباشرةً. أساسًا، ذكره في معرض التوبيخ. أساسًا، لم يوجّه رسالته إليه، بل إلى شخص آخر، اسمه غايس، تشهد الكنيسة لإخلاصه للحقّ ولرسوله (يمكن أن يكون غايس عضوًا في جماعة ديوتريفُس). إذًا، ذكر اسمه، ليقول لغايس (وَمَنْ معه): "لا تتمثّل الشرّ" (الآية الـ11)، أي ديوتريفُس. بات "الرئيس"، عند يوحنّا، مثالاً للشرّ. هذا كلّه سببه أنّه رغب في الرئاسة. رغب فيها فيما هو رئيس!

لا تذكر الرسالة من خطايا ديوتريفُس سوى ما أشرنا إليه أعلاه، أي أنّه رفض أن يسمح لبعض وعّاظ متجوّلين بأن يقوموا بتكليفهم. لا يفسد الرئاسة عدد الخطايا. خطيئة واحدة، (خطيئة آدم)، خرّبت الكون. وديوتريفُس سقط في واحدة أيضًا. خطيئته واحدة، إنّما لها صدى التخريب الذي أحدثته خطيئة آدم. كلّ خطيئة تخريب. ويبدو التخريب في خطيئة ديوتريفُس أنّه، فيما رأى نفسه الكلّ، خرج على أمانته للحقّ وما ترسمه كنيسته. ماذا يعني هذا واقعيًّا؟ يعني أنّ يوحنّا يسجّل، على مدى التاريخ، أنّ الرئاسة تُديمها الأمانة لرسم الحقّ فحسب. لقد رأى أنّ ديوتريفُس يرى نفسه فوق المكلّفين نقل الكلمة، أي رآه يرى نفسه فوق الكلمة. وأعلن أنّ رئاسته قد سقطت. تعاطاها خطأً، فأسقطه تعاطيه من موقعه. سجّل أنّ الرئاسة لا تحتمل استغراقًا في الموقع، أي في جهل أنّ كلّ وظيفة، في الجماعة، هي موهبة تتلاقى مع المواهب الأخرى، وتتكامل معها لِما يخدم بنيان الكنيسة، "جسد المسيح". لقد ذكر التراث أنّ ثمّة شرًّا لعينًا هو أن يوصي أحدٌ بنفسه (2كورنثوس 10: 18)، أي أن يُعبِّر أنّه يستحقّ هذا الموقع أو ذاك. أمّا هنا، فنرى حتّى صاحب الموقع لا يليق به أن يرغب في موقعه. ما يليق به أن يرغب في الله أو في خدمة الإخوة، أي، في سياقنا، في الفرح بأنّ كلمة الله توزَّع. لا يقول تراثنا إنّ لنقل الكلمة فمًا واحدًا. وخير مثال على ذلك ما جرى يوم كان بولس الرسول مسجونًا. يومها، ظهر أشخاصٌ "يبشِّرون بالمسيح لِما فيهم من حسد وخصام". أرادوا أن يغيظوه. ولكنّه فاجأ الحسّاد الخصوم، الذين ظنّوا "أنّهم بذلك يزيدون قيوده ثقلاً"، بإعلانه أنّ ما من أمر يفرحه كما أن تُوزَّع كلمة الله. قال حرفيًّا: "فما شأن ذلك؟ فإنّ المسيح يبشَّر به في كلّ حال... فبهذا أفرح، ولن أزال أفرح" (فيلبّي 1: 12- 19).

ليس في كلام يوحنّا أيّ إشارة إلى أنّ ديوتريفُس قد ابتدع بدعة. لكنّه وجده غارقًا في الضلال. ليست البدعة أن تختلق تعليمًا غريبًا عن التراث الحيّ فحسب، بل هي، أيضًا، أن تحيا في الكنيسة من دون اعتبار لِما يُحيي البشارة فيها. إن كانت البدعة شأنها أن تزيّف الحقّ، فثمّة مواقف تبتدع التزييف من دون خروج لفظيّ على الحقّ. المسيحيّة ليست ألفاظًا مجرّدة. إنّها حياة الله في الإنسان. ودور الرئيس، أيّ رئيس، أن يعتني، خصوصًا، برعاية هذه الحياة، ويسهر على امتدادها. يجب أن تمتدّ الكلمة المحيية. هذا ما أراده يوحنّا. يجب أن تمتدّ الكلمة في كلّ مَنْ كلّفهم الله أن يمدّوها وإلى كلّ مَنْ يحيون على هذه البسيطة.

ربّما لا نرى، في زماننا الحاضر، خدمة وعّاظ متجوّلين. أقول ربّما. وحسبي أنّنا نعلم بأنّ أيّ عضو في الجماعة مسؤول عن أن يتجوّل بالكلمة. لكن، يمكننا أن نجد، في غير زمان ومكان، مَنْ يزعجهم أن تجري أمور الله من غير طريقهم. توبيخ يوحنّا لا يجوز حصره بِمَنْ استحقّه، أي بديوتريفُس وحده. هذا نموذج. وشأننا أنّ نستفيد من جدّيّة هذا التوبيخ، ونرى أنفسنا جميعًا فيه. جميعًا، أي الكسالى الذين لا يعتقدون أنّ تكليفهم أن ينقلوا كلمة الله. وجميعًا، أي كلّ مَنْ يغيظهم أن ينقلها غيرهم. وجميعًا، أي كلّ مَنْ يعتقد أنّ موقعه أعلى شأنًا من الكلمة وتاليًا من الإخوة، أي كلّ مَنْ يلهو عن الرغبة في الله بانبساطه في موقعه. ليست المواقع سدودًا عاليةً تمنع الكلمة من الوصول إلى الناس، بل أداة لها.

الرغبة في الرئاسة شرّ يجب أن نتجنّبه ما حيينا. هذا أمر يُبدينا أنّنا قد فهمنا، حقًّا، أنّ الربّ، الذي أرادنا أن نتشبّه به في كلّ شيء، هو، وحده، "رئيس خلاصنا" (عبرانيّين 2: 10).

- مجلّة النّور، العدد الخامس، ٢٠١٠
شارك!
Exit mobile version