يمتّعنا العهد الجديد بإيراد حوارات جرت بين الربّ وأشخاص عديدين من غير نوع. فثمّة حوارات أقامها يسوع مع أشخاص أتوا إليه بهدف أن يشوّهوه، إن بتغيير الحقيقة أو تجربته، وحوارات مع أشخاص، على خطايا بعضهم الظاهرة، كانوا طيّبين جدًّا.
من الحوارات التي هدفها تجربته، حواراته العديدة مع الفرّيسيّين والصدّوقيّين وَمَنْ معهم وإليهم (ومنها: متّى 16: 1- 4، 19: 3- 9، 22: 15- 22 و34- 46، لوقا 10: 25- 37؛ يوحنّا 8: 2- 11). أمّا الحوارات الأخرى، فعديدة، ويتميّز في تسجيلها لا سيّما الإنجيلي يوحنّا، مثل الحوار مع نيقوديمس (3: 1- 21)، ومع السامريّة (4: 4- 42)، وغيرهما.
ما يلفتنا، في هذا كلّه، أنّ الربّ يدخل في أيّ حوار بِقلبٍ منفتح. لا يميّز بين وجه ووجه. يهمّه الإنسان، خلاص الإنسان. يعرف أنّ الناس هم، عمومًا، أسرى مجتمعهم وما فيه من تقاليد وعادات وأجواء قاتمة. ويريد أن يحرّرهم ممّا تعوّدوه، أو اختاروه، أو فُرِضَ عليهم، وتاليًا أن يرفعهم إلى مطلاّت السماء التي فيه. إذًا، هو، في كلّ حال، يحاور، لينقذ. يعي موقعه ورسالته، ويقيم حواراته على أساس وعيه الثابت. وهذا يجعله سيّد كلّ حاور سواء ابتدأ هو به، أو أتى نتيجة سؤال طُرح عليه.
تكشف حوارات السيّد غنى شخصيّته العظيم. وخير ما يميّزه إيجابيّته. ففي حواره مع السامريّة مثلاً، نراه يدفعها إلى خيار الصدق. هي، عندما سألها أن تدعو زوجها، أخفت عنه أمر زيجاتها المتعدّدة. أخفت، أو كذبت، لا فرق. قالت له: "لا زوج لي". وهو لم يوبّخها على جوابها. صدّقها! قال لها حرفيًّا: "بالصدق، أجبت". وروى لها تاريخ حياتها كلّه، ليساعدها، بإيجابيّة ظاهرة، على أن تختار الصدق نهجًا لحياة جديدة. وممّا يميّزه أيضًا أنّه يبدي، في حواراته، مرونةً عالية. والمرونة من أسس أيّ حوار تحاول فيه أن يسمعك غيرك، ليقبلَكَ ورأيَكَ، إن أمكن. فأنت، إن قلت شيئًا وأنت منفعل مثلاً، فقد تقع كلماتك على الأرض، ولا يلمّها محدّثك. يرفضها، ويرفضك. يسوع كان مَرِنًا، بمعنى أنّه كان يطلب القلوب. ومرونته، التي هي صفة عامّة في حواراته طرًّا، تظهر خصوصًا مع مَنْ يحاورونه بقلب قاتم. فمثلاً، في حواره مع الصدّوقيّين حول القيامة، التي ينكرونها (متّى 22: 23- 33) إلى جانب نبذهم الملائكة والشياطين (أعمال الرسل 23: 6- 8)، يقدّم لهم جوابًا عن حقيقتها. ويستند، في نهاية جوابه، إلى كتب التوراة التي لا يقرّون بسواها. وهذا وجه عالٍ من وجوه مرونته.
ثمّ نراه، في حواراته جميعها، يقدّم لكلّ شخص ما ينفعه. وهذا، الذي يفترض أن تعرف محاوريك معرفةً حقيقيّةً، من أسس الحوار الناجح. مَنْ كان قصدهم أن يحرجوه، لم يلتقطوا منفعتهم. لكنّ السيّد لا يقفل بابه قَبْلَ أن يستقبل زوّاره، أي لا يعتمد على النتيجة التي يعرفها. يحاول. ويحاول تعني أنّه يقول للجميع ما يجب أن يعرفوه. يقتحم سوادهم القاتم، ليضيء عليهم بنوره المحيي. هو قال "لم يأتِ من أجل الأصحّاء". يعنيه المرضى. يعنيه أن يقدّم لهم كلّ معونة. عندما اعترض الكتبة والفرّيسيّون على وجود يسوع في بيت متّى العشّار، مع رفاقه العشّارين والخاطئين، وسألوا تلاميذه: لماذا يأكل معلّمكم مع الخطأة، أجابهم أنّه لم يأتِ ليدعو الأبرار، بل الخاطئين (متّى 9: 9- 13). كان بإمكان السيّد أن يخفي إجابته. الفرّيسيّون، أصلاً، سألوا تلاميذه. ولكنّه كلّمهم، ليدعوهم، هم أيضًا، إلى الصحّة التي يقدّمها مجّانًا لكلّ الناس. كان الفرّيسيّون مرضى حقيقيّين. ولذلك كان يريد أن يعينهم. يريدهم أن يكتشفوا قلوبهم، ليخلصوا.
يكفي أن نذكر أنّ يسوع تنازل وحاورنا، لنعرف أنّه يعترف بوجودنا، وأنّه يريد لنا الخير، الخير كلّه.