الرؤية الحركيّة هي رؤية عامّة لا تقبل أيّ تفرّد. وما يؤكّد ذلك أنّ المؤسّسين الأوائل سمّوا لقاء الحركيّين الأعلى: المؤتمر العامّ؛ ولقاء المسؤولين الدائم: الأمانة العامّة؛ والمسؤول الأوّل في الجسم الحركيّ: الأمين العامّ.
هذا، حركيًّا، ينسكب، في الضمير والفكر والسلوك، وعيًا أنّنا، معًا، في غير موقع. لا أحد، في موقعه، يفكّر، أو يتصرّف، في غياب الآخر. فالآخر موجود، أي حاضر، ولو بَعُدَ جسديًّا. ومَنْ كان موجودًا، يشاركني في حياتي ومصيري وفي كلّ ما يجعلني قامة تحلو لله. وهذا، تاليًا، يعني أنّني أريده موجودًا. وأخرج إليه كما إلى نفسي. وأدخله قلبي، حتّى يغدو هو قلبي. ونكتشف، معًا، أنّنا في قلب الله.
لا يغيب، والحمد لله، هذا الوعي عن أيّ مركز من مراكزنا الحركيّة التي تخدم في مدانا الأنطاكيّ الواحد. ما من شكّ في أنّ ثمّة أشخاصًا دخلوا الحركة من دون أن يدخلوا روحَها، أو تدخلهم روحُها. لكنّ هذا، كثر أو قلّ، يبقى أمرًا يرتبط بروح الحركة التي تأبى أن تقفل أبوابها في وجه أحد يطلب الصلح مع الله. فالحركة، منذ نشوئها، وعت أنّها تعمل في الكنيسة. "إنّها منها وفيها". وكلّ وجودها يقوم على رجاء أن تثبت محبّة الله في قلوب جميع شعبه.
لم تمتّن الرؤيةَ الحركيّة الواحدة نيّةُ التمتين فحسب، بل لقاء الوجوه. وهذا كان نهج الحركيّين الأوائل. ربّما لا يعي الحركيّون الجدد جميعًا هذا الأمر وعيًا كاملاً. وربّما لا يكونون، أيضًا جميعًا، قد رأوه بأمّ عيونهم. فمنذ نشوء الحرب اللبنانيّة الأخيرة، وما تبعها من أمور أرهقت مدانا الأنطاكيّ، بات اللقاء يقتصر، تقريبًا، على المؤتمرات العامّة والحلقات التدريبيّة واجتماعات الأمانة العامّة وبعض زيارات محصورة يقوم بها بعض مسؤولين في مواقع مختلفة. ما يخبر به الإخوة الأوّلون، بات نادرًا، أو محصورًا جدًّا. ولكنّ ثمّة مراكز، ولا سيّما القريبة بعضها من بعض، استمرّت على الإرث. واستمرّت النيّة أن تعود بركات الأيّام الخوالي حيث خفّ بريقها، أو تعثّر. واستمرّ جهاد الواعين بيننا الذين يبيّنون، بسلوكهم المبرور، أنّ حياتهم معًا حقيقة حقًّا.
غير أنّ الأمانة للإرث الحركيّ تبقى الدافع الأساس إلى ضرب كلّ نتوء قد يظهر، هنا أو هناك، في الحياة الحركيّة. والإرث معنى حياتنا وإمكان وحدتنا الدائمة. ولربّما خير اعتقاد عمليّ يجب أن نبيّنه، اليوم، هو إدخال الأدب الحركيّ في برامج فرقنا كلّها. وهذا يفرض، لزامًا، أن تلتقي الفرق، في اجتماعاتها الأسبوعيّة، دائمًا. ويفرض أن نقرأ، معًا، ما خلّفه الكبار بيننا، وندرسه، ونناقشه، ونحاول تطبيق ما يفيدنا منه اليوم (ومعظمه مفيد). وإذا نظرنا إلى تراثنا الحركيّ، فلا نشكّ في أنّ هدف اجتماعاتنا الأساس أن ندرس فكر كنيستنا بجدّيّة كبرى، لنحيا منه وعليه. فالاجتماعات، كما هي، لم تكن، في يوم من الأيّام، هدفًا أخيرًا عندنا. الهدف كان، وسيبقى، أن نعي أنّ نهضة الربّ هي نهضتنا نحن أيضًا، أي نهضة كلّ واحد في هذه الكنيسة الرائعة. صحيح أنّ حال الكنيسة قديمًا، لم يكن هو السبب الأوّل لظهور الحركة. فنحن لم يحركّنا الخطأ أو الخطايا، بل حبّ ابن الله الذي بذل دمه من أجل خلاصنا. الدم هو المحرّك. والدم باقٍ مُحييًا ومحرّكًا، وسيبقى إلى الأبد. وهذا يعني أنّ الفكر الكنسيّ ليس فكرًا نستقيه من المراجع المكتوبة فحسب. الحركة أخذت الكتب، وأوّنتها. كيف تقرأ حياة الله، وتلتزمها الآن؟ تلك كانت القراءة الحركيّة.
كلّ هذا يفترض ركونًا دائمًا إلى تراثنا المحفوظ في صفحات مكتوبة، وفي قلوب إخوة اختبروا حبّ الله ورضاه. نحن لا نقدر على التنازل عن أيٍّ من هذه الصفحات. فالصفحات المكتوبة نقرأها، وننقلها إلى قلوبنا، ونضيف إليها ما يوحي به الله في القلوب. نحن يمكننا أن نقدّر الصعوبات الهائلة التي تضربنا هنا وثمّة. وهذه قد تأتينا من الظروف التي تحوط بنا (سياسيّة واجتماعيّة وغيرها)، وقد يحرّكها بعض أوضاعنا الداخليّة. لكنّ أيًّا من هذه الصعوبات يجب ألاّ يجعلنا نخضع لما هو غريب عن تراثنا. نحن نخضع، فقط، لمشيئة الله التي دلّنا عليها مَنْ ساروا وراءه، وربطوا مصيرهم بمصيره. فالخبرة تبيّن أنّ ثمّة فرقًا كبيرًا بين مَنْ ربي على هواه وبين مَنْ ربي على الله ومحبّته. ونحن، في الواقع، ليس لنا سوى محبّة الله هوًى. هو، وحده، هوانا. ومَنْ جعل الله في قلبه، لا يقدر على أن يهمل كلّ ما يجعل حبّه لله عظيمًا. الأدب الحركيّ شأنه أن ينمّي فينا محبّة الله، لنقدر على خدمة كنيستنا. ما من خدمة تصحّ سوى على قاعدة محبّة الله.
هذه العبارة "الرؤية الحركيّة" تحمل معناها. فالرؤية، وإن عنت أمرًا اللهُ يريك إيّاه، تفترض أن يُرى ما رأيته وتراه. وإذا كان الله هو الذي يمزّق الحجب ويفتح العيون المغلقة، فالحركة، بما تحمله من رؤية، ستبقى موطئًا لقدمَيْ الله الذي مشيئته الدائمة أن "يتمجّد في الكنيسة وفي المسيح يسوع على مدى جميع الأجيال والدهور" (أفسس 3: 21).