عندما دعانا الرسول إلى أن "نسير سيرةً تليق بالدعوة التي دعينا إليها، سيرةً ملؤها التواضع والوداعة والصبر" (أفسس 4: 1 و2)، إنّما أرادنا أن نتشبّه بالربّ في كلّ شيء. وأن نتشبّه بالربّ، هو أن نرتدي فضائله العجيبة دائمًا وفي كلّ حال.
ثلاث فضائل يتبعها "أن نحتمل بعضنا بعضًا بالمحبّة مجتهدين في المحافظة على وحدة الروح برباط السلام" (2 و3). ويجب أن نلاحظ أنّ الرسول لم يتكلّم، في هذا المقام، على المعرفة الكنسيّة، ولو أنّه لم ينكر حقّها المنجّي. فالمعرفة هي أن نحيا بموجبها. بمعنى أنّ الرسول، إن تكلّم على الفضيلة بتخصيصٍ هنا، فهذا يجب أن يعني لنا أنّه تكلّم على المعرفة التي شأنها أن تكون متجسّدة دائمًا. ولا يفوتنا أنّه اختار الفضائل التي تظهرنا، في حياتنا اليوميّة، وضيعين أمام الملأ. وهمّه الثابت وحدتنا وخلاص العالم في آنٍ واحد. فأنت لا تقدر على أن تكون واحدًا مع إخوتك في الرعيّة، ولا مع أهل بيتك، ولا مع زملائك في العمل أو في الوطن، ولا تقدر، تاليًا، على أن تؤثّر في خلاص أحد وضعه الربّ على دروب حياتك، إن لم تكسر ذاتك حبًّا. ليس مثل التواضع والوداعة والصبر والمحبّة، التي تنشئ مناخ السلام، فضائل تجمعك بِمَنْ هم لك وإليك، وتجعلك نافعًا في عالمٍ يجهل جهلاً عميقًا أنّه يفتقر إلى خير ربّك. وهذه الفضائل، التي تحضّنا على الانكسار حبًّا، تعطينا أن نرى الآخرين، أيًّا كانوا، حلوين، أو حلوين على الرجاء، وتعطينا، تاليًا، أن نلطف بهم، متى كانوا على خطأ، وأن نشجّعهم على ثبات الصحّة، متى كانوا يتبعون نور المسيح. أي إنّها فضائل تمنعنا من أن ندين أحدًا على زلّة ثابتة، أو مقدّرة، وتشجّعنا على أن نحبّ الخير في الآخرين أيًّا كانوا، وأيًّا كان موقعهم. فنحن غالبًا ما نميل إلى أن نرى أخطاء غيرنا، ونعمى عمّا نرتكبه نحن من أخطاء قاتلة. ولستُ بقائلٍ ما ليس معروفًا إن قلت إنّه من النادر أن تسمع شخصًا، أتى يشكو شريكه في الحياة، يجرؤ، مثلاً، على أن يتكلّم هو على أخطائه الشخصيّة. الناس، ولا يُستثنى منهم بعض مسيحيّين ملتزمين، ميّالون، عمومًا، إلى أن يتكلّموا على خطايا غيرهم. ولذلك تستمرّ خلافاتهم. ولذلك يتفرّقون، ويتعادون. ولذلك يغدون لا ينفعون شيئًا.
ربّما يعتقد أحدٌ أنّ الرسول دعا قرّاءه إلى أن يسيروا وفق السيرة التي دُعوا إليها، فيما يجب أن يكونوا يفعلون ذلك. وهذا، طبعًا، اعتقاد صحيح كلّيًّا. بمعنى أنّ مَنِ انتسبوا إلى الله دعوتهم الملزمة أن يحيوا حياة فاضلة تليق بدعوتهم. ولكنّ هذا الاعتقاد، على صحّته الكلّيّة، يعوزه أن نعرف أنّ قيمة الدعوة المسيحيّة أنّها دعوة حرّة، أي دائمة، أي متجدّدة دومًا. يدعونا الرسول، أي يطلب منّا أن ندعو أنفسنا، كلّ يوم، إلى أن نفتدي قلوبنا بفضائل الله، وأن يَظهر إخلاصُنا لا سيّما عندما تتهاوى القيم حولنا وفي العالم. يدعونا، أي يذكّرنا بما يجب أن نذكره نحن دائمًا. ويدعونا، أي يمنعنا من أن نسقط في تبريرنا أنفسنا بخطايا غيرنا. فالمسيحيّ الفاضل، أي المتواضع والوديع والصبور والمحبّ، شخصٌ لا يبرِّر نفسَهُ بخطايا أهل الأرض. شخصٌ قيمتُهُ العظمى أنّه يحيا في سلام مع الله ومع أبناء جنسه باللحم والدم. تراه، مهما اشتدّت المعاصي في الأرض، حرًّا من أيّ عيب يجعله يحاكي أبناء هذا الدهر. ترى شغله الشاغل أنّه ينعطف على جراحات الناس وأوجاعهم القاتلة، ليداويها، ويحيوا. وهذا يطلبه من نفسه كلّ يوم ما دام هناك يوم.
ثمّ يذكر الرسول ما يوجب حقّ هذه الدعوة المحيية، بقوله: جسد واحد، روح واحد، رجاء واحد، ربّ واحد، إيمان واحد، ومعموديّة واحدة، وأب واحد (أفسس 4: 4- 6). ويمكننا أن نلاحظ، من دون أيّ جهد، أنّ هذه العبارات جملةً صفتُها واحدةٌ، أي "واحد". فالمؤمن عضو في جسد واحد، أي في كنيسة الله الواحدة، يحيه روح واحد، يجعله يرجو، رجاءً واحدًا، أن يعمّ خير الله في الأرض. أي إنّه عضو يؤمن بربّ واحد ضمّه إلى عائلة أبيه في معموديّة لا تتكرّر، بل يجدّدها الحبّ وخدمة سرّ وحدة الله وخلاصه الواحد. وهمّ الرسول أن يأتي المؤمنون جميعًا من الله وفعله الخلاصيّ إلى صحّة الحياة المنقذة. وذلك بأنّ المسيحيّة، كلِّ المسيحيّة، هي أن تترجم علاقتك بالله مع أترابك والناس أجمعين. يجب أن نكون على ثقة تامّة بأنّ الناس، ولا سيّما الذين في الخارج، إن رأوا الخير فينا، فسيسألون عن مصدره. فأنت دعوتك الدائمة، في كلّ ما تقوله وتفعله، أن ترفع العالم إلى الله وبرّه وجماله. وهذا يبيّن السبب الحقيقيّ الذي جعل الرسول يدعو قرّاءه، ويدعونا نحن أيضًا، إلى أن نبقى مخلصين للدعوة التي دعينا بها. يريد أن يظهر الله في كلّ أقوالنا وتصرّفاتنا. يريد أن يظهر الله، أي أن يتمجّد في أمورنا كلّها.
الدعوة المسيحيّة هي دعوة حرّة تحضّنا طاعتُها على أن نتشبّه بإلهٍ لم يكسر أحدًا، بل كَسَرَ جسدَهُ "من أجل خلاص العالم".