عظة الربّ، المسطّرة في الإصحاح الثامن عشر من إنجيل متّى، موضوعها "الحياة في الكنيسة". ما يعنينا، هنا، من هذه العظة البليغة، آيتان عزيزتان على قلب كلّ مَن فهم، بواقعيّة عميقة، أنّ مركز الحياة المسيحيّة هو حياة المسيحيّين معًا في بركات الشكر وشركة الوجود والمصير. أمّا الآيتان، فهما: "وأقول لكم: إذا اتّفق اثنان منكم، في الأرض، على طلب أيّ حاجةٍ كانت، حصلا عليها من أبي الذي في السموات. فحيثما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي، كنت هناك بينهم" (متّى 18: 19 و20).
أوّلاً، لا بدّ من التذكير بأنّ العظات الخمس، التي جمعها متّى في إنجيله[1]، تكشف جميعها أنّ الالتزام المسيحيّ، الذي رسم الربّ مقتضياته، يقوم على ارتضاء سيادة الله الآب كلّيًّا، والعيش بموجب رضاه، ورجاء مكافأته الأخيرة. فيسوع إنّما أتى من أجل أن يعرّف البشر بالله أبيهم (يوحنّا 17: 6 و26)، ويعيدهم، بإتمامه "التدبير الذي من أجلنا"، إليه، ليتنعمّوا ببركات حبّه وفرحه. وهذا يستتبعه، وفق العظات المذكورة عينها والعهد الجديد برمّته، أن يقبل الملتزمون بعضهم بعضًا كما قبلهم المسيح "لمجد الله"، ويتعاضدوا في غير وجه بنّاء[2]. فالحياة المسيحيّة قوامها بعدان متلازمان أحدهما عموديّ والآخر أفقيّ، أي محبّة الله ومحبّة الناس جميعًا (متّى 22: 34- 40)، ولا سيّما "أخوتنا في الإيمان" (غلاطية 6: 10). والإنسان، مؤمنًا، لا يكمل بأن يكتفي بالتزام بُعْدٍ من هذين البعدين، بل بإتمامهما معًا في آنٍ واحد وفي كلّ آن. البعد العموديّ إلزاميّ لتحقيق البعد الأفقيّ، والبعد الأفقيّ أيضًا إلزاميّ لإتمام البعد العموديّ. فمن الله ومحبّته تنبع علاقة المؤمن بالآخرين. ويرتفع المؤمن، بمحبّته للآخرين، إلى الله الواحد والجامع الكلّ.
انطلاقًا من هذا الحقّ الثابت، يمكننا أن نرى أنّ الآيتين، اللتين آثرنا اختيارهما واستجلاء معناهما في هذه السطور، تقولان هذين البعدين المذكورين معًا. البعد العموديّ ظاهر فيهما بوضوح، ولا سيّما في الآية الثانية (الآية الـ20) التي رأى تراثنا أنّها تتعلّق بعبادةِ اللهِ، أو بالتزام المؤمن الحياة الليتورجيّة قاعدة كلِّ التزام. وظاهر أيضًا البعد الأفقيّ، الذي ينبع من العبادة أو يصبّ فيها، وأعني العلاقة الراضية التي تجمع أعضاء الكنيسة بعضهم ببعض. ومَن قرأ العظة، التي اقتطعنا منها هاتين الآيتين، يعرف أنّ هذه العلاقة الراضية تعني، تحديدًا، عيش الجماعة معًا بهدف بناء كلّ عضو من أعضائها بالعضد الأخويّ والنصح المستمرّ والمصالحة الصالحة، وبكلّ ما يجعله نافعًا وقادرًا على المساهمة في تثبيت الشهادة لله في العالم.
هذا كلّه يتمّ باسم الربّ يسوع الحاضر "بين" جماعته. فاتّفاق المؤمنين الملتزمين، في الجماعة، لا يقوم على لحم ودم. "اللحم والدم لا يسعهما أن يرثا ملكوت الله" (1كورنثوس 15: 50). وهذا يعني، أيضًا، أنّ اللحم والدم لا يؤكّدان ما يطلبه الله من المؤمنين به، ولا يشكّلان كنيسة الله في الزمان والمدى. اتّفاق المؤمنين قوامه الله الآب الذي يرعى الكنيسة بـ"ابن محبّته" (كولوسّي 1: 13) الحاضر في ما "بينها" سيّدًا ومخلّصًا. فالربّ يسوع هو مَن يدعو المؤمنين، ويجمعهم إلى الله أبيه الذي تبنّانا بنعمة روحه. لأنّ يسوع "هو شعاع مجد الآب وصورة جوهره" (عبرانيّين 1: 3)، ولأنّه، وحده، دليلنا إليه (متّى 11: 27؛ يوحنّا 14: 6).
إذا وضعنا هذا الأمر نصب أعيننا، لا يخفى علينا أنّ الأعداد الصغيرة، التي تطالعنا بها هاتان الآيتان (اثنان أو ثلاثة)، لا توحي بأنّ الربّ يشجّع على قيام جماعات صغيرة منفصلة عن الكنيسة الواحدة التي تضمّ الكلّ، ولا بأنّه يرتضي تكتّلاتٍ في الكنيسة. فلفظة "منكم"، التي تظهر في الآية الأولى من الآيتين عينهما، تثبت، بما لا يقبل جدلاً، حقّ البعدين اللذين أتينا على ذكرهما، أي تثبت أنّ كلّ عضو، أو عضوين أو ثلاثة، لا كيان منفصلاً لهم عن حياة الجماعة. وهذا يعني أنّ الربّ، بلفظه أعدادًا صغيرة، أراد أن يكشف حضوره وفعله "في القطيع الصغير" (لوقا 12: 32)، وتاليًا أن يبيّن أنّ الكنيسة، التي تتحقّق في الأسرار المقدّسة، تتطلّب أن يحيا المؤمنون بعضهم مع بعض أيضًا. هذا من أسس حياة الكنيسة الجامعة الوفود. العدد الصغير، إذًا، يُظهر قوّة الله، ويقول، بصراحة، إنّ المؤمنين، الملتقين في رحاب العبادة، مدعوّون إلى أن يكملوا لقاءهم بارتباطهم بعضهم ببعض في الحياة، وما يفترضه هذا الارتباط من عون وإرشاد واسترشاد.
السؤال الذي يطرح ذاته هنا، هو: هل هذا ما يصير، اليوم، في الجماعة المسيحيّة؟ أي هل أنّ المؤمنين الملتزمين يلتقون، جماعاتٍ أو أفرادًا، خارج اجتماعات العبادة، ليسندوا بعضهم بعضًا في التعليم والحياة؟ إذا نظرنا إلى بعض الرعايا المنثورة هنا وهناك، يصعب علينا أن نقدّم جوابًا واحدًا عن هذا السؤال. فثمّة مؤمنون قليلون يلتقون خارج العبادات؛ وثمّة مَن يعنيهم أن يصلّوا، في كنائس رعاياهم، ولا يعنيهم أيّ أمر آخر؛ وثمّة مَن لا يعنيهم شيء من هذا كلّه! لكن، ما يجعلنا نرجّح، أو نتحيّز لجواب سلبيّ، إذا استثنينا بعض الشهادات التي لا تخفي قلّتها نورها، هو أنّ الذين يلتقون خارج العبادات، ولا سيّما في المدن، هم يلتقون، عمومًا، بسبب قرابة، أو صداقة، أو جيرة، أو زمالة، أو بسبب أنّهم ينحدرون من قرية واحدة. وإذا تفحّصنا مضمون لقاءاتهم لا يخفى علينا، أيضًا عمومًا، أنّه لا يقول، بفصاحة، امتداد العبادة المرجوّ والمفيد في آنٍ. وهذا لا يفي بما يطلبه يسوع، هنا، وفاءً كلّيًّا، أو لا يوافق المعنى الذي رسمه، وحلا له، وأراده. فالربّ يطلب أن يتوافق المؤمنون في أمور الحياة الجديدة، وأن تكون لهم أمور مشتركة يرفعونها طلبًا إلى الله، انطلاقًا من وعيهم شركة الكنيسة، أو امتدادًا لهذا الوعي. معنى ذلك أنّ المسيحيّة قربى تتجاوز قربى الجسد والزمالة وما إليهما، وأنّ الإنسان لا يمكنه أن يكمل وحده. ليس القصد من هذا أنّ اللقاءات، التي تفترضها القرابة الجسديّة وما إليها، لا تقدر على أن تقول الخير المرجوّ، أو أنّها لا تقوله إطلاقًا. فكلّ مَن تبنّى، بجدّيّة ظاهرة، القاعدة التي رسمها الربّ نهجًا لحياة جماعته، قادر على كشف الخير المطلوب وتثبيته في هذا الوجود. وليس من قاعدة صحيحة تقوم على إهمال الانتساب إلى عائلة الله وامتداد حياة العبادة في لقاءات نافعة تجمع أعضاء الكنيسة بعضهم إلى بعض.
ثمّ لا يجوز بنا أن نعتقد أنّ اتّفاق المؤمنين، في هذا القول، يمكن أن يعني اتّفاقًا على كلّ حاجة، أيًَّا كانت، ولو غير نافعة. فالربّ يقول: "إذا اتّفق اثنان منكم في الأرض على طلب أيّ حاجة كانت، حصلا عليها من أبي الذي في السموات". ومعنى قوله لا يحدّده طلب المؤمنين حصرًا، بل وعيهم، أوّلاً، أنّ الله أباهم هو الذي يعطيهم ما يطلبونه. فالربّ، بقوله، أراد أن يعلّم أتباعه أن يطلبوا إلى الله كلّ ما يتّفقون عليه، أو "كلّ حاجة". وأتباع الربّ الحقيقيّون يعرفون أنّ ثمّة حاجات لا يوافق عليها أبوهم السماويّ، أو لا يراها ضروريّة لخلاص طالبيها. وهذا، بالتأكيد، يعني أنّ الله الآب يعطي أتباعه ما يتّفقون عليه، إن كان اتّفاقهم يحكمه رضاه وخلاصه. ورضا الله أن يخضع المؤمنون به لمشيئته (متّى 6: 10)، ورضاه أن يطلبوا "أوّلاً ملكوته وبرّه" (متّى 6: 33). وهذا، استطرادًا، يعني أنّ المؤمنين الحقيقيّين لا يعلّون اتّفاقهم فوق إرادة أبيهم السماويّ، أي لا يفرضون شيئًا مخالفًا عليه. ولا يتذمّرون إن طلبوا وحسبوا أنّ طلبهم لم يتحقّق لهم. ولا يشكّون. ولا يتغابون، فيملّون الطلب[3]. المؤمنون الحقيقيّون يعرفون أنّ الله أباهم يريد خلاصهم، وأنّهم إنّما يحصلون على ما ينفعهم، سواء أعطاهم ما طلبوه تحديدًا، أو لم يعطهم. فيكفي الإنسان، مؤمنًا، أن يعي أنّ الله أبوه، وأنّ المؤمنين، قريبين كانوا أو بعيدين، هم إخوته، وأنّهم جميعًا محفوظون بنعم وفرة. هذا، عند المؤمن الحقّ، هو العطاء الكامل الذي لا يشبهه، أو يوازيه، عطاء في الأرض.
الحياة، في الكنيسة، هي حياة مع الله بالابن في الروح القدس الذي يقود المؤمنين إلى القداسة التي يذوقونها في لقاء الأبد ولقاء الحياة.
[1] وهي المثبّتة في الإصحاحات الـ5- 7، والـ10، والـ13، والـ18، والـ24- 25.
[2] أنظر: رومية 15: 7؛ وأيضًا: غلاطية 5: 13، 6: 2؛ أفسس 4: 32؛ 1تسالونيكي 5: 13- 15؛ 1بطرس 1: 22، 4: 8.
[3] كما يقول القدّيس كيرلّس الإسكندريّ في شرحه الصلاة الربّيّة.