الأب إيليّا متري | Father Elia Mitri

الجِدّيّة

"طريق الله صليب يوميّ"
(القدّيس إسحق السريانيّ)

المسيحيّة ذهب جدّيّ في كلّ تفصيلها وتفاصيلها. من خصائصها أنّها تطلب، مع ما تهبه من نعم، أن يوافق المؤمنون الحقّ، أي أن يكونوا جدّيين في موافقتهم قولاً ومسلكًا.

قلنا جدّيين. والقول يعني أنّ المسيحيّين لا يتجاوزون ما يريده ربُّهم. إنّهم يعرفون، أو هكذا يجب، أنّ كلّ تجاوز يشوِّه المسيحيّة، ويجعلها على قياس أعضائها. وهذا، إن حدث، يخالف دعوة الرسول الذي أرادنا أن نصبو إلى أن نكون على "قياس قامة ملء المسيح" (أفسس 4: 13). وهذه الإرادة لا تعني سوى أن نسعى إلى أن نكون، في الأرض، مسحاء، شأنُهم الثابت أن يقتدوا بِمَنْ أوجدهم على صورته، ليتمثّلوا به في كلّ شيء.

ليس هذا الشأن خرافة. فإنّ الله هو من يدعونا إلى أن نتمثّل به في حياتنا كلّها. والله لا يدعونا إلى ما لا يعطينا هو إمكانَ تنفيذِهِ. فحتّى الجدّيّة، التي ظاهرها ربّما يُفهم أنّها قرار بشر لا علاقة لله به، لا تُجوز مقاربتها على غير قاعدة عطاء الله السخيّ. وهذا هو معنى المؤازرة في المسيحيّة. فالمؤازرة منطلقها أن نؤمن بأنّ الله يريدنا أن نقبل ما يعطينا إيّاه. ويسهل هذا الإيمان على مَنْ يعترفون بالله قادرًا على كلّ شيء. لم تقصد المسيحيّة، بتعليمها عن المؤازرة، أنّنا والله نكوّن قرارًا نصفه عليه ونصفه الآخر علينا. المؤازرة، التي من معانيها أنّ الله يعيننا في كلّ ما يخدم مجده، معناها الأوّل أنه يعطينا كلّ شيء، لنقبله نحن كلّيًّا. وإذا جاز لنا أن نبسط معنى المؤازرة عدديًّا، فتكون أنّ الله يعطينا مئة بالمئة، ونقبل عطاياه مئة بالمئة. ولذلك عدم الجدّيّة خطيئة لا تشبهها خطيئة. إنّها كذلك لكونها توحي بأنّ الله غير مرغوب في فعله فينا. وهذا لا يناسبه أن نعتقد أنّنا، أحرارًا، يمكننا أن نفعل ما نشاء. فالحرّيّة فُطرنا عليها، لنرتضي فعل الله فينا. ما من شكّ في أنّ رفض فعل الله يمكننا أن نقرّره بإرادتنا. ولكنّ هذا الرفض يشوّه الحرّيّة التي وهبنا الله إيّاها. ثمّة فرق شاسع بين أن أقبل الله، أو أن أرفضه. وإن كان الرفض علامة من علامات حرّيّتنا، فيجب أن تقودنا هذه العلامة إلى الاعتراف بعظمة الله الذي شاءت عزّته أن نرتضيه، أو أن نرفضه.

كلّ هذا يعني أنّ الجدّيّة يطلبها وعينا أنّ الله جدّيّ في علاقته بنا. فالله يحبّنا بِجدّيّة، ويهبنا نعمه بِجدّيّة، ويساعدنا بِجدّيّة، ويصبر علينا بِجدّيّة، ويحاسبنا بِجدّيّة. الله جدّيّ، أي ليس عنده مزاح. الله جدّيّ، أي يريدنا جدّيّين في قبولنا كلّ ما يضمن خلاصنا. فمن مقتضى الجدّيّة أنّها قرار شخصيّ. إذا نظرنا إلى واقعنا، فلا يفوتنا أنّ الناس ليسوا جميعهم جدّيّين في علاقتهم بالله. إذ إنّ ثمّة كثيرين يُتَفِّهون قلوبهم باختيارهم الغرق في وحل الأرض. هذا ليس كلامًا غريبًا عن الأذنين وعن العينين. وإن قلنا إنّها قرار شخصيّ، فنعني أنّها حرّة من الناس وخطايا الناس وتقلّبات الناس وجنون الناس. فالجدّيّة تعني أن تعتقد "أنت" بأنّ الله، على كلّ التفاهات التي تسمعها وتراها، يريدك ثابتًا في إخلاصك له. لا أحد مستقيمًا ينكر أنّ المؤمن، في الحياة الكنسيّة، يتقوّى بإخوته، ولا سيّما إن كانوا جدّيّين. لكنّ الواقع يفيد أنّ الناس، في غير موقع، قد يسقطون بعد وقوف. ولذلك الجدّيّة تعلّقٌ باللهِ الثابتِ خيرُهُ أبدًا. هذا ليست فيه استهانة بالإخوة وتعاضد الإخوة. هذا، إلى جانب الإقرار بأنّ الله يحفظ لنفسه دائمًا "سبعة آلاف، كلّ ركبة لم تجثُ للبعل وكلّ فم لم يقبِّله" (1ملوك 19: 18)، شأن من شؤون الوعي أنّ ما من أمر، إن تهاوت القيم من حولنا، يبرّر خطأنا الشخصيّ. في الحياة الكنسيّة مبرّات، وفيها فواجع. وأنت، واعيًّا، إنّما شأنك أن تكون ثابتًا في البرّ، عميقًا في الحبّ، وحرًّا من آثار أيّ فاجعة تطرق مسمعك، أو تقتحم عينيك.

هل حرّكتني إلى ما أقوله صدماتٌ كنتُ أرجو أن يبعدها الله عن جماعته؟ ليس الجواب عن هذا السؤال بمهمّ. المهمّ أن نبقى على ثقة بأنّ الله لم يعطِ أحدًا منّا أن يقعد مكانَهُ، ليحكم على الناس كيفما شاء. وإن جاز لي أن أقول شيئًا كَمَنْ يدّعي الخبرة، فأقول إنّني تدرّبت على أن أؤمن بأنّ الموتى فقط لا يتغيّرون. يحزنني كلّ نجم يسقط، ويبكيني. ويجعلني كلام الرسول: "فَمَنْ يكون ضعيفًا ولا أكون ضعيفًا؟ ومَنْ تزلّ قدمُهُ ولا أحترق أنا؟" (2كورنثوس 11: 29)، قزمًا أمام سماء لا يعيق سطوعَ ضوئها سقوطُ بعض النجوم. لم يعطَ أحدٌ منّا أن يجبر النجوم، متى سقطت، على أن تعود إلى مواقعها. كلام الرسول المثبت هنا يؤكّد أنّه، أمام الفواجع، شريك ضعف محرق. كلّنا هذه شركتنا، أو هكذا يجب. وربّما خير ما يعنيه كلام بولس أنّه، أمام أيّ ضعف وأيّ زلل، يريدنا أن نستمطر رحمة الله على الكلّ فيما يحرقنا ضعفنا. الله، إن قُبلت نعمتُهُ، هو مَنْ يقدر على أن يعيد النجوم إلى مواقعها. ويكفي أن يسمع الله أصواتنا تصدح أن يُبعد عن العالم محبّة أن يرتدي أحدٌ سقوطَهُ بأناقة! فالجدّيّة أن تريد شعب الله، بسعيٍ محبّ، فيما تدرك فقرك، أغنياء بالله وجدّيّين في محبّتهم له.
لا يخدم الكنيسة سوى الجدّيّين الذين يحيون من محبّة إله لا ينفكّ يحبّ العالم بِجدّيّة مدهشة.

- مجلّة النّور، العدد الرابع، ٢٠٠٨
شارك!
Exit mobile version