أن نريد الناس جددًا، أمر يفترض أن نحيا مدركين أنّ الربّ قد خلع عنّا الإنسان العتيق، وألبسنا الإنسان الجديد، "ذاك الذي يُجدَّد على صورة خالقه، ليصل إلى المعرفة" (كولوسّي 3: 10). وهذا يعني، ممّا يعني، أنّه ضمّنا، في معموديّتنا، إلى جماعة المعمَّدين، وأنّه، تاليًا، كلّفنا أن نساهم في أن تبقى جِدّة المعموديّة روح حياتنا معًا.
إذًا، جِدّةُ المعمَّدِ نعمةٌ يؤكّد فورانَها ارتباطُه بجماعة الله. بهذا المعنى، الجدّة مسؤوليّة، أو تكليفُ خدمةٍ هدفُها خلاصُنا وخلاصُ العالم في آن. فكما نقول إنّ كلّ إنسان يجب أن يكون له، في بيت ذويه، وجود فاعل، نقول، أيضًا، يجب أن يكون لكلّ معمَّد، في كنيسته، وجوده الفاعل. فأن تدرك أنّ أعضاء الكنيسة هم عائلتك، وأن تكليفهم تكليفك، أمر يلزمك أن ترتبط بهم، وتصرف نفسك في خدمتهم دائمًا. لا يقول فصاحةَ الجِدّة انخراطٌ شكليٌّ في جماعة الله، ولا خروجٌ معيب على الالتزام. فالجِدّة معنًى من معاني الارتباط الفاعل المفترض أن يكون دؤوبًا. وهكذا يفترق القريب عن البعيد كما يفترق شرق الأرض عن مغربها. فإذا تكلّمنا بالشكل، لا يمكن أن يدرك شخص أبعد نفسه عن أهل بيته ما يحدث في بيته، أو ما يحتاج إليه أهل بيته. إدراكه، واقعيًّا، رهن بوجوده أوّلاً. فالوجود هو ما يثير فينا أن نخدم. يعطينا وجودُنا أن نرى الحاجة، ويحرّكنا إلى أن نجتهد في التزامها، أو يقول لنا ما علينا فعلُهُ مَنْ كُلِّفوا أن يُريهم وجودُنا مواهبَنا التي منحنا إيّاها روح الله. فالبعد لعنةٌ، أو، بكلام ألطف، خسارةٌ للذات وللجماعة في آن واحد.
أمّا الجِدّة، فيمكن أن تظهر في القول القويم كما في المسلك الراضي، أيًّا تكن بساطته. في مطلع التزامنا، كان الإخوة المعتبرون بيننا يردّدون علينا: "إنّ خروجكم صباح الأحد، من منازلكم، لتشاركوا في الخدمة الإلهيّة في كنيستكم، يقول الشيء الكثير لمعظم الذين يمشون على الطريق باتّجاه آخر، أو ترونهم يحملون فطورًا أعدّوه في الخارج، أو يحتسون قهوتهم على شرفات منازلهم". وكانوا، بهذا القول، يريدون أن يزداد وعينا أنّ الشهادة، التي لا تحتمل أن ندين أحدًا أو نستعلي على أحد، لا تحتاج إلى كلام مستفيض دائمًا، بل يظهرها أيضًا، ببلاغة كلّيّة، أيُّ تصرّفٍ يرضي الله. لم نفهم، حينئذٍ، أنّ ما كان الإخوة يريدونه سيَجري، فيما نفعله، إلى قلوب الناس كما تجري المياه في المنحدرات. فأذكر، مثلاً، أنّني كنت، وأحد الإخوة الشمامسة الذي رسم حديثًا، نسير جنبًا إلى جنب، في صباح أحد الآحاد، باتّجاه الكنيسة. وأتانا، من شرفة أحد المنازل، بصاق مدوٍّ تصحبه شتائم مقزّزة هزّت صمت الشارع الذي كنّا فيه وحدنا. ومن دون إدانة، إن دلّت هذه الحادثة على أنّ ثمّة أناسًا يكرهون أن يُحَبّ الله، فلا أقصد، بإيرادها، أن أناقض طموح المعتبَرين بوضع جميع البشر في بوتقة واحدة. فالحقّ يقال إنّ ثمّة إخوة، لا بأس بعددهم، (إن كان يليق قياس فعل الشهادة عدديًّا)، استعادوا التزامهم الكنسيّ بفضل إشعاع شباب كانت حياتهم حجًّا إلى الله.
لقد قلنا أعلاه إنّ الجِدّة مسؤوليّة. وهذا يجب أن يعني لنا، دائمًا، أنّها تلزمنا أن نكون أحرارًا من عادات الناس وتقلّبات الناس وجنون الناس. فمن خصائص الإنسان الجديد، أي الذي يعي مسؤوليّته في خدمة الله، أن يعرف ما تقتضيه خدمته. لا يتحرّك مَنْ جدّده الله وفق حدودِ ما يظهرُهُ واقعُ الناس، مهما بدا هذا الواقع صدئًا. فللإنسان الجديد أفقٌ يحكم تصرّفاته، ولا سيّما متى اشتدّ ليل هذا العالم بهيميّة. وأفقه أن يعرف اللهَ كلُّ من يتنفّس على هذه البسيطة، وأوّلهم إخوته في الإيمان. ولذلك لا يسمح المتجدّد للعالم، متى رآه يعاند الحقّ، بأن يرميه في حزن فتّاك أو يأس قاتل. إن كان معظم الناس يسيرون باتّجاهات أخرى، فيبقى تكليف الإنسان الجديد أن يسعى، بحبّ ظاهر، إلى أن يدلّهم على مصدر خلاصهم. لا يستطيع مؤمن، يدرك خلاص الله، أن ينام، مرتاح البال، فيما الناسُ يهدّدهم خطر قاتل. هذا ليس من شيم الجِدّة. هذا استسلام، أو نفضٌ لغبار أرجلنا قبل أن نكون قد دخلنا بيوت الناس التي كلّفنا الربّ أن ندخلها دائمًا (قابل مع: متّى 10: 14).
لمّا قال الرسول، في الإنسان الجديد، "ذاك الذي يُجدَّد على صورة خالقه، ليصل إلى المعرفة"، كشف طبيعة علاقتنا بالله الحيّ. فبولس، في استعماله لفظة "يُجدَّد"، أرادنا أن نعتقد أنّ جِدّة المعموديّة ليست لها حدود في هذه الأرض. وما يزيد هذه الإرادة بيانًا انسياب الآية التي منتهاها أن "يصل (المعمَّد) إلى المعرفة". فالمعمَّد، الذي يحيا من طاعة الله في القول والعمل، إنّما هو شخص لا تتوقّف حركة تقدّمه في النعمة والحقّ، أو هكذا يجب أن يكون سعيه. وهذا، الذي يؤكّد الحرّيّة التي أتينا على ذكرها قبلاً، يؤكّد، تاليًا، كلامنا على مسؤوليّة التزام كنيسة الله وعملها وشهادتها. فعبارة "الإنسان الجديد"، التي بات واضحًا أنّها تدلّ على المعمَّد، إنّما تدلّ، في الآن عينه، على جماعة المعمَّدين، أي على الإنسانيّة الجديدة التي تحيا، معًا، من طاعة الله وخدمة مجده.
لا تفرز المعموديّة أشخاصًا هامشيّين، لا لون لهم ولا طعم، بل جنودًا يخدمون الربّ في الكنيسة والعالم الذي يحيون فيه. يبقى أن نرجو أن يدرك جميع الذين وُلدوا "بالماء والروح" أنهم أقيموا، ليخدموا جماعة الناس، ويساهموا في قيادتهم "إلى المعرفة" التي هي معنى الوحدة بالله.