20ديسمبر

التوهُّم

الكثير من مشاكل أهل الأرض سببُهُ التوهُّم. فمعظم الناس، في هذه الأيّام، بات أعلى ما يعنيهم أن يُلبسوا غيرهم ما يعتقدون أنّه في غيرهم. ولا يكتفي المتوهِّمون بما تُنبته أفكارهم، بل يزيدون عليه أنّهم، في الغالب، يعادون مَنْ وقعت عليهم عيوب اخترعوها لهم، وصدّقوا أنّها فيهم.

من عيوب التوهُّم تبريرُ ما فينا بإسقاطه على الآخرين. فأنت، إن كنت تبتغي الاستغراق في أمرٍ ربُّكَ يأباه، تفتّش عَمَّنْ يبرّر عيبك، لتلصقه به. وتختار، عمومًا، مَنْ ترى أنّه بارز في جماعتك، لاعتقادك أنّ عيب البارز يسهّل عيبك، ويبرّره. فأنت، متوهِّمًا، شأنك أن تجعل الآخرين صفحات بيضاء، لتلوّنهم بأقلامك السوداء. شأنك أن تستعمل بعضًا من كلماتهم ومواقفهم، التي فهمتها على هواك، لتتربّص بهم على أزقّة أنت وضعتهم فيها، أزقّة لا مخرج لها. ومن ثمّ قد تقول، في نفسك أو علنًا، ما دام فلان يفعل هذا، فما من عيب إن بقيتُ عليه أنا أيضًا.
ومن عيوبه أنّه يجعلك سريع القبول بما يقال لك إنّه خطأ سواك. تريد أخبار الخطأ. تسعى إلى تتبّعها بجنون. تبحث عنها كما عن كنز ثمين. فأنت، متوهِّمًا، عبد أذنيك المريضتين. تنعشك الأفواه الحقودة. يُسكرك أن "تجلس في مجلس المستهزئين"، لتترصّد الكلمات، و"تجترّ الشائعات"، ولا سيّما تلك التي تدين مَنْ تفرحك إدانتهم. تريد أن تزداد معرفة، لتزداد توهُّمًا. المتوهِّم أسير ما فيه.

عندما قال الربّ إنّه جاء ليفكّ غلال أسرنا (لوقا 4: 18)، أراد لنا أن نعرف أنّه إنّما أتى، ليعيدنا إلى بيت الله الآب الذي خسرنا انتسابنا إليه بفعل وَهْمِ الخطيئة. فنحن، مأسورين، لم نكن في مكان محدّد، بل في الخارج، في البرد، في الظلام. وهذا، الذي لا يمكن أن يفهمه سوى الملتزمين، قد يشوّهه مَنْ حسبوا أنّهم، لمجرّد دخولهم بيتَ الله، غدوا يعرفون كلّ شيء. فَمِنَ الملتزمين، خارجيًّا، مَنْ يبقون أسرى عيوبهم. يدغدغهم شعورهم بأنّهم موجودون في البيت. ويبقى أفق التزامهم دغدغة. والتزام بيت الله يفترض التزام أخلاق صاحبه. الحرّيّة، التي وُهِبْناها مجّانًا، يطلب حقّها أن تكون لنا علاقة وطيدة بإله أحبّنا، ورسم هدف حياتنا بما خرج من فمه. ولذلك يتعبك بعض الملتزمين خارجيًّا إذا غرقوا في توهُّمهم. يتعبك أن تجد بينهم من يتربّص بإخوته، ليحوك تهمه في الظلام. وتسأل. وتبكي. فأنت لستَ الله "القادر على كلّ شيء". فتلتزم البكاء، لتحافظ على دفء عينيك، وتبقى على رجاء أن يعين الله مَنْ يحتاجون إلى معونته.

هناك، إذًا، فَرْقٌ شاسعٌ بين أن أكون حرًّا وبين أن أتصرّف كما يحلو لي. لا تسمح الحرّيّة لأحد بأن يقول (أو يفعل) ما يشاء لِمَنْ يشاء. الحرّيّة، إن وعينا حقّها، تضطرّنا إلى أن نرمي عنّا رداء التوهُّم. وهذا سبيله أن نحبّ ليس مَنْ كانوا على خطأ برأينا فحسب، بل، أيضًا، مَنْ أخطأوا حقًّا. ليس من دلالة على العبوديّة كما أن نريد الآخرين في عيب راهن. وليس ما يؤكّد ثبات عبوديّتنا كما أن يحملنا عيبٌ، اكتشفنا أنّ أحدًا سقط فيه، إلى أن نكرّ عيوبه كما نكرّ خرزات السُبْحَة. المسيحيّة ليست مجتمع أطفال يهمّهم أن يلعبوا. المسيحيّة جِدّيّة. وجِدّيّتها تأبى الخروج على أنّ تكليفنا يوجب العمل على مدّ خلاص الله في العالم. كلّ إنسان قيمة في عيني الله. كلّ إنسان، حتّى الذي ثبتت خطاياه أمامنا. وإلاّ كيف نفهم أنّ الله أحبّنا فيما نحن خطأة غير مستحقّين؟

ثمّ مَنْ يهمّهم ثبات العيب في سواهم أشخاص يعتقدون أنّ الله "خلقهم وكسر القالب". وهذا عمق معنى الفرديّة التي هي عنوان "حضارة" اليوم. أنا فقط. أنا، أو لا أحد. الفرد، مهما بدا اجتماعيًّا، يحيا في فلك نفسه. لو كان المتوهِّم شخصًا يأتي من رؤية الله، لأدرك أنّه فريد. مشكلة المتوهِّم أنّه لا يأتي إلاّ من عيني نفسه. يختزل البشريّة، ليثبت نفسه. لسان حاله أنّ كلّ الدنيا خاطئة، وأنّه هو، وحده، مَنْ ينطق الحقّ في الدنيا. وما من دنيا للمتوهِّم إلاهُ.

لم تُعَلِّ المسيحيّة، في تاريخها كلّه، خطيئة على أخرى. بلى، كانت لها، في غير جيل، خطايا أسمتها شهيرة. لكنّ هذه، كما هو معروف، كان ترتيبها يتبدّل بين جيل وجيل. وإن لم يذكر تعليمنا التوهُّم في رأس الخطايا لفظًا، يبقى، في ضمير الكنيسة، أنّ شرّ الشرور هو كلّ ما يجعلنا نغلق عيوننا عن خطايانا الشخصيّة، ونفتحها على ما نحسبه خطايا في الآخرين، أو كانت فيهم فعلاً. هذا لا أقوله بهدف إعلاء خطيئة على أخرى. فالمسيحيّة واضحٌ اعتبارُها أنّ أيّ خطيئة، مهما كانت كبيرة أو صغيرة، هي "الكلّ". ومن الضروريّ أن نعرف أنّ الكلام على الخطايا، في المسيحيّة، هدفه الأعلى يندرج في سياق حثّ مَنْ تاهوا على أن يعودوا إلى رشدهم. بلى، العالم وسخٌ كلّه. ولكنّ المسيحيّة لم تدعُ أعضاءها إلى استقباح ما في العالم من شرور إلاّ لتثبت أمرين، أوّلهما أن يتجنّبوا الشرور، وثانيهما أن تحثّهم على العمل في عالم يحتاج إلى طهر ربّهم. والتوهُّم، الذي ينقل إلى داخل البيت ما تدعو المسيحيّة إلى تجنّبه، شرّه أنّه يعطّل هذا الحثّ تحديدًا. ومن دون أن أقصد التكرار، كلّنا يعلم أنّ ثمّة مسيحيّين يرتدون حلّة جديدة من دون أن يخلعوا عنهم حلّتهم القديمة. هذا خطر دائم. وسيبقى دائمًا ما دامت أبواب كنيستنا مشرّعة. ويجب أن تبقى كذلك.

علينا جميعًا أن نبقى على يقين أنّنا مدعوّون إلى خدمة طهر الربّ في الجماعة أوّلاً، لنحسن القيام في خدمة مَنْ فضّلوا البعد على القرب. وهذا يفترض أن نفحص قلوبنا، لننقّيها من كلّ شرّ ووهْم. لا يحتمل الالتزام المسيحيّ أن ندخل حياة الجماعة، ونبقى خارجها. مَنْ لا يحسن الدخول، كان الأجدر به أن يبقى في الخارج. هذه ليست دعوة إلى الطرد. هذه دعوة إلى دخول صحيح، اللهُ يطلبه قَبْلَ شعبه.

- مجلّة النّور، العدد التاسع، ٢٠٠٨
شارك!

اضف رد

جميع الحقوق محفوظة، 2023
Skip to content