التوبة، التي تعني أن نعود إلى الله، يتضمّن معناها عودةً إلى الإخوة في الجماعة أيضًا.
أمور عديدة تدفعنا إلى التأكيد أنّ الجماعة الكنسيّة قيمة، لا يمكن أن توضع على حدةٍ، في مقاربة أيّ سرّ من أسرارنا المقدّسة. فما يبدو غائبًا عن بال الكثيرين اليوم، لغير سبب، أنّ الأسرار الكنسيّة لا يمكن أن تجري بعيدًا من شركة الجماعة. فنحن، أرثوذكسيًّا، لا نسمح للكهنة، مثلاً، بأن يقيم أحدهم الخدمة الإلهيّة في غياب الإخوة. ونشترط أن يوافق المؤمنون على رسامة أيّ كاهن (في الخدمة، يقولون، حاضرين، "مستحقّ"). والزواج لا يتمّ من دون شهادة الجماعة الحاضرة. والمعموديّة لا يمكن أن تقام من دون وجود عرّاب (للذكر، أو عرّابة للأنثى) يمثّل جماعة المؤمنين. وهكذا أيّ سرّ آخر.
سنترك التوسّع في الكلام على الأسرار. وننحصر، في هذه السطور، بسرّ التوبة.
ما هو معروف، عمومًا، أنّ التوبة، في ممارسة الكنيسة الأولى، كانت تقام أمام الجماعة التي يؤمّها الأسقف، ولا سيّما في حالة بعض الخطايا التي كانت تسمّى شهيرة (القتل، الزنى، والجحود). وهذا، الذي تغيّر شكله في مطلع القرن الخامس بقرار من نكتاريوس بطريرك القسطنطينيّة (خلف القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم)، لا يقاربه الكثيرون، اليوم، وفق ما يقتضيه تراثنا الحيّ. فإنّنا نرى المؤمنين، على قلّتهم، يقصدون الكهنة، ليعترفوا بذنوبهم، فيما معظمهم يحسبون أنّ ما يفعلونه لا علاقة للجماعة به، لا من قريب أو من بعيد. إنّه، عند معظمهم، عمل فرديّ! عمل يخصّ شخصين حصرًا! وإن كنّا نعرف أنّ ما فعله البطريرك نكتاريوس إنّما دفعه إليه الخوف من أن يفوه بخطاياه شخص معتبَر، أي الخوف من معثرة الضعفاء، فالله يعلم ما سيكون ردّ فعله لو عاش في عصرنا. لو عاش في عصرنا، عصر استبعاد الجماعة، عصر حصر ممارسة الاعتراف بشخصين، عصر اعتبار الخطيئة سوءًا أخلاقيًّا نصحّحه بجلسة سريعة وبضع كلمات نردّدها بوعي أو بحكم العادة، لَما كان أحد، غير الله، يعرف ما سيفعله. هل يبقى على تكليف الكهنة حصرًا، أو يأمر بإعادة إقامة السرّ إلى ما كان عليه آنفًا؟
لنبتعد عن الفرضيّات، ونلزم أنفسنا بالتركيز على ما يقتضيه تراثنا. وهذا يصعب إدراكه، فعلاً، في ظلّ حاضر يعجّ بالمشوَّهات. فالحاضر يبيّن، ممّا يبيّن، أنّ مَن يمارسون الاعتراف أمام الكهنة يكادون يختزلون التوبة بما يفعلونه. ولا نعني أنّ الكهنة هم المسؤولون جميعًا عن زرع هذا الاختزال في عقول مَن يلوذون بهم، بل إنّ مؤمنين كثيرين، ممَّن يمارسون الاعتراف وممَّن لا يفعلون، لا يفقهون أنّهم، إن أخطأوا، إنّما يهينون، إلى أنفسهم، الله وجماعته. الخطيئة، كما تعرّفها معظم الأفواه الحاضرة، سوء شخصيّ يضرّ بمَن ارتكبه. وهذا التعريف لا يقول كلّ شيء، بل يمعن في اختزال مقتضى التوبة. لا أعتقد أنّه يعوزنا أن نؤكّد أنّنا، بما نقوله، لا نبتغي أن نخفي أنّ الخطيئة تضرّ بمَن ارتكبها. فهذا لا يشكّ واعٍ في صحّته. ولكنّنا، فيما نتكلّم على التوبة، يعوزنا أن نذكر أنّ الربّ أعطى كلاًّ منّا ما يحييه في جماعته، وفي آنٍ ما يحييها. والخطيئة تشوّه دورنا في عمل الإحياء تحديدًا. الضرّ يبدو في أنّنا لا نعلم أنّنا أشخاص ذوو نفع. تكسرنا الخطيئة. تمنعنا من فعل الخير. وتخسر الجماعة، بسقوطنا، ما كنّا قادرين على عمله.
عندما نادى الربّ "توبوا"، لم يرد، في كلام دقيق، أن يردّد ما قاله الأنبياء قَبْلَهُ تردادًا مجرّدًا، بل أن يكشف قيمة الحياة الجماعيّة في قانون العهد الجديد. فـ"توبوا"، عبارة مسكوبة في صيغة الجمع. بلى، لقد أراد، بقوله، أن يتوب كلٌّ منّا توبةً شخصيّة. ولكنّ هذا يصعب تحقيقه إن لم نقرّ في أنّ التوبة، التي هي طلب الربّ، إنّما نمتّنها بانخراطنا في حياة رعايانا أوّلاً. فهذا الانخراط أساس الكلام على التوبة، ومنها على الاعتراف أمام الكهنة. فنحن ما الذي يحرّكنا، (أو يجب أن يحرّكنا)، متى قصدنا كاهنًا، لنقرّ أمامه بذنب ارتكبناه؟ يحرّكنا ما قلناه، أي وعينا أنّنا أسأنا إلى أنفسنا والله وجماعته. إنّنا نقصد معرّفنا، لنقرّ بهذه الإساءة المثلّثة. ثمّ نعود (أو يجب أن نُحَثّ على أن نعود)، بعد أن نكون قد نلنا إرشادًا وصلاةً ينفعاننا، إلى مَن أسأنا إليهم جميعًا. نعود إلى أنفسنا وإلى الله وشعبه، أي إلى الجماعة التي حكم الله أن نحيا فيها. فالخطيئة، خروجًا على الله الحاضر في جماعته، نداويها بالتوبة في أبعادها المبيّنة. وهذا يبيّن أنّ ما قرّره نكتاريوس، وإن تغيّر شكله، لم يتغيّر مضمونه، أي أنّ الكنيسة لم تخالف نفسها بتوجيه المؤمنين إلى الاعتراف أمام الكهنة. لا يمكن أن تغيّر الكنيسة أنّ الجماعة حضن المؤمن في مسيرة التوبة. وما نحتاج إليه، إذًا، هو أن نعي أنّ أيّ توبة، لا قيمة واقعيّة لها، إن وضعنا جماعة الله على حدةٍ. أيّ توبة، لا قيمة لها، إن قبلنا الحقّ من فم، ولم نقبله دائمًا (أي من كلّ إنسان). أيّ توبة، لا قيمة لها، إن لم تحرّكها شركة الجماعة، وتستثمرها شركة الجماعة. كلّ المسيحيّة جماعة إخوة يعلمون أنّ الله يريدهم أن يعينوا بعضهم بعضًا على قبول الحقّ الآن ودائمًا. وهذا ما يوافق تراثنا. هذا فحسب.
كلّما قصد أحدنا أباه الروحيّ ليبوء بذنب ارتكبه، يجب أن يعرف أنّه ذاهب، ليشفي نفسه بمصالحته الله وإخوته، وأوّلهم الذين يحيا معهم في رعيّة واحدة. ففي هذه المصالحة، نفهم أنّ الله لم يقم معنا علاقةً محصورةً تنقض جماعته، بل أقام لنا كنيسته، لنحيا فيها، ونجتهد، دائمًا، لـ"نكون (معًا) بلا لوم ولا شائبة وأبناء الله بلا عيب" (فيلبّي 2: 15)، ليتمجّد الربّ في شركة الإخوة أبدًا.