17مايو

التوبة بين الواقع والمرتجى

            إذا نظرنا إلى واقعنا، لا لندين بل لنقتفي آثار الحقّ، لا يخفى علينا أنّ ثمّة كثيرين قطعوا أنفسهم عن شركة كنيستهم. كلّ ما يقال عن أنّ المؤمنين لا يمارس معظمهم الاعتراف أمام الكهنة، لا يصف، على سوء هذا الإهمال المخجل، حال الهجرة التي اختارها الكثيرون نهجًا لهم. فالمشكلة، التي تضربنا اليوم، لا يحصرها إهمال هذه الممارسة الكنسيّة أو تلك، بل الحياة الكنسيّة برمّتها.

            هذا، باختصار، يدلّنا على أنّ وضعنا معقّد كثيرًا، ويحتاج إلى إصلاح جذريّ. وهذا، تاليًا، يستدعي أن نطرح على أنفسنا أسئلةً مصيريّةً تتعلّق بحياتنا وبوعينا ما يريده الله منّا فعلاً.

            عنونّا هذه السطور: "التوبة بين الواقع والمرتجى". لم نقصد أن نتكلّم على التوبة سرًّا محصورًا بجلسة اعتراف يقيمها مؤمن مع أبيه الروحيّ. فالتوبة، التي تفيد أن نبوء بعيوبنا لمَن أُوكلوا "سلطان الربط والحلّ"، معناها لا ينحصر بهذه الإفادة المحيية. معناها يطاول حياتنا كلّها. معناها يتطلّب أن نعي أنّ الله هو الكلّ في الكلّ. فأن نتوب، لهو أن نرجع إلى الله الذي يريدنا كلّيًّا له. يريدنا له، في توطيد انضوائنا إلى كنيسته، وفي التزام الفهم القويم والخلق الحسن، وفي وعينا حقّ الشهادة لمجده في عالمٍ أهلُهُ يشغلهم المجد الباطل. أي يريدنا أن نختار "القداسة التي بغيرها لا يراه أحد" (عبرانيّين 12: 14). فالتوبة حياة أعضاء الكنيسة الذين شأنهم أن يدركوا أنّ الدنيا زائلة، ويستقرّوا في طاعة الله القدّوس.

            على تعب الحياة الدنيا، يبقى لها بريقها الأخّاذ. ما من أحد منطقيّ يمكنه أن يدّعي أنّ كلّ مَن يهملون كنيستهم يفعلون ذلك بدفعٍ من عداوةٍ تتحكّم فيهم. ما من إهمال يزكّي، طبعًا. ولكنّنا نعرف أنّ الناس، اليوم، تأخذهم الدنيا، ولا يرى معظمهم أنّ ثمّة ما يوجب أن يتبعوا الله إلى حيث يريدهم أن يفعلوا. تأخذهم الدنيا، أي لا يتعاطونها فحسب، بل يسمحون لها بأن تتعاطاهم أيضًا. فمعظم الناس باتوا يؤثرون أعمالهم، طموحاتهم، عائلاتهم، وراحتهم الشخصيّة، على ما يعتبره الله الحيّ أساس الحياة الجديدة. هل يعتقد مَن يهمل كنيسته أنّ ما يفعله، لخيرِ مَن معه، نوعٌ من عبادة؟ هذا ممكن كثيرًا. ومعروف أنّ ثمّة مهملين كثيرين يؤجّلون ما يحييهم التزامه على أساس أنّ الله حكم نفسه بأن يرحم جميع خلقه. فالمهملون غالبًا ما يتّكلون على أنّ الله رحيم. ما من شكّ في أنّ الله رحيم. لكنّ الرحمة، التي تجعلنا نستغلّ الله بتأجيلنا طاعته، إنّما هي استخفاف بمَن مشيئته كلّها أن نربط مصيرنا بمصيره. المسيحيّون لا يعرف الكثيرون منهم أنّ الله لا يُحصر بصفة من صفاته. الله لا يحصر بالرحمة ولا بالدينونة ولا باللطف ولا بالصبر ولا بأيّ صفة أخرى. الله، الذي صفاته كاملة، هو الحرّ من كلّ حصر. وهذا، الذي يؤكّده تراثنا، من أهدافه الواقعيّة أن نعبد الله بقبولنا صفاته المحيية كلّها.

            إلى هذا، يجب أن نعرف أنّ كلامنا على وضعنا المعقّد لا يبرّر استمراره أحدًا، يلتزم حقّ الله، أيًّا كان موقعه في الجماعة. فالمسيحيّة، المسيحيّة كلّها، أن نعتقد بأنّ الله، الذي فدانا بدم وحيده، يريدنا جميعنا، أجل جميعنا، أن نخدم فداءه في الأرض. ليست المسيحيّة مذهبًا فرديًّا يسمح لأحد بأن يكتفي بنفسه. المسيحيّة مذهب قوم يعون أنّ مسؤوليّتهم الثابتة أن يسهموا في تجديد الكون، الكون كلّه. إن كان الذين يحيون معنا وإلينا قد اختاروا الغربة والبعد نصيبًا، وتركناهم أسرى نصيبهم، ما من أمر يجعلنا، ولو ملتزمين، نضمن "إكليل البرّ" الذي يجزي به الربّ "جميع الذين اشتاقوا ظهوره" (2تيموثاوس 4: 8). كيف لا نرتضي أن يبقى أحد أسير غربة وبُعد؟ أو: كيف لا نقبل أن يختار أترابنا طريق الموت نصيبًا (حزقيال 18)؟ هو سؤال الله قَبْلَ أن يكون سؤال بشر. وهذا يعني أنّ المرتجى، الذي يجب أن نسعى إليه، أن تكون التوبة، بأبعادها المذكورة، هي عملنا الثابت في هذه الحياة. لا يستسلم المؤمن لواقع مهما كان صعبًا. لا يتأفّف. لا يكلّ. ولا ييأس. وبالأخصّ، لا يقول: "لا علاقة لي بما يجري حولي". المؤمن هو مَن يبذل نفسه في سبيل قيام إخوته. المؤمن طموحه أن تقبل السماء مَن يحبّهم قَبْلَ أن تقبله هو.

            ما حاولنا قوله، يجب أن يدلّنا على أنّ التوبة هي، أيضًا، أن نتوب عن كلّ كسل لا طائل فيه. هذا هو المرتجى الأعلى الذي يرضي الله الذي لا يبطل عمله. إن كنّا نعتقد أنّ التوبة تجب لمَن أخطأ بإهماله شركة كنيسته، (وهذا حقّ)، فعلينا أن نضمّن اعتقادنا أنّنا، كسالى، نحتاج إلى التوبة أكثر بكثير ممَّن نحسبهم خطأة، أو كانوا فعلاً. هذا ليس كلامًا يخالف الحقّ. هذا كلام الحقّ الذي أقامنا، لنرجو، بما نبذله من خدمة، أن يقوم كلّ الناس إلى الله، ويثبتوا فيه. وهذا هو الرجاء الذي يعطي الواقع معنى أبديًّا.

            ليس من قيمة، في عيني الله، لأيّ مؤمن يعتقد أنّ توبته، بمعناها الفرديّ، تكفيه. فالله لم يفتدنا، لنبقى أسرى أنفسنا. هذا العالم، الذي نحيا فيه، يريدنا الله أن نبذل أنفسنا من أجل أن يعي أهله خلاصهم. لقد بشّر الكونَ اثنا عشر رسولاً آمنوا بأنّ إلههم هو إله الكون كلّه. هؤلاء كانوا يدركون أنّ واقع أهل الأرض معقّد. ولكنّهم وضعوا رجاءهم على الله الذي آمنوا بأنّه هو مَن يعمل فيهم كلّ ما يرضيه. التوبة، في الأخير، أن نؤمن بأنّ الله ما زال يعمل، ويريد أن يعمل فينا، ليدرك محبّته كلّ مَن يتنفّس على هذه البسيطة. بهذا، فقط، نقتفي آثار الحقّ، وتكون توبتنا توبةً تليق بانتسابنا إلى الله.

شارك!

جميع الحقوق محفوظة، 2023
Skip to content