في رسالته الجامعة، يخاطب الرسول يعقوب قرّاءه بقوله لهم: "إنّ التديّن الطاهر النقيّ عند الله الآب هو افتقاد اليتامى والأرامل في شدّتهم، وصيانة الإنسان نفسه من العالم، ليكون بلا دنس" (1: 27).
يمكننا أن نتصوَّر، فيما نطلب معنى هذا القول المربّي، أنّ قرّاء عديدين، يصادفون عنوانه (التديّن الطاهر)، قد ينتظرون، في تعريفه، صفحات لا تنتهي. وربّما بعضُهم يسأل: لِمَ هذا الإيجاز؟ هل ما نقرأه يكفي لتعريف التديّن طاهرًا؟ هل، فعلاً، ديننا كلّه أن نفتقد اليتامى والأرامل، ونحفظ أنفسنا في العالم بلا دنس؟ أين الأمور الأخرى التي يطلبها تراثنا الكنسيّ؟ أين الصلاة والصوم؟ وأين شركة الجماعة؟ وأين التزام قراءة كلمة الله؟ أين، وأين، ومئة أين وأين؟ وعلى إقرارنا بأنّ هذه الأسئلة لا تخلو من منطق، لا يليق بنا أن نقبل أن يختفي، وراءها، أنّ الرسول قد أتى، في ما قاله، بأقلّ ما يكفي. هذا لا يعني أنّ القارئ لا يحقّ له أن يعتقد أنّ ما قاله يعقوب أراد منه، مثلاً، أن يركّز على ما يقضّ مضجعه أوّلاً، أي كتب ما كتبه إذ رأى أنّ ثمّة في الجماعة مَنْ يلهو عن الحقّ بأمور تقنعه، أي يهمل مَنْ ذكرهم (اليتامى والأرامل)، وتاليًا يعرج آخرون ما بين محبّة الله والعالم. وعلى أنّ هذا لا يخلو من منطق أيضًا، يجب أن نثبت على أنّ ما سلّمنا إيّاه الرسول كامل كلّيًّا. هذا شرط قراءة كتبنا والبحث عن معانيها.
سنحمل معنا، في تأمّلنا، الاعتقاد الذي أوردناه أعلاه. فالثابت أنّ كلّ ما سجّله العهد الجديد له ظروف وضعه، أي وُجِّه إلى أناس يحيون في مكان وزمان معيّنَيْن، لهم عاداتهم وتقاليدهم وجمالاتهم وخطاياهم القاتلة. ولكنّ هذا، الذي ينفعنا لنقف على دوافع أيّ نصّ إلهيّ نقرأه، لا يسمح لنا بأن نحصر المسلّمات بخزائن الماضي البعيد، أي أن نعتبر أنّها تعني مَنْ وُجِّهت إليهم حصرًا. فكلمة الله، أمسِ واليوم وغدًا، حرّة من كلّ حصر. وهذه الحرّيّة المطلقة تلزمنا أن نضمّن اعتقادنا أنّ ما أتى به الرسول إلى قرّاء محدّدين يخصّنا أيضًا، أو يخصّنا دائمًا، ويخصّ كلّ مَنْ سيتبعون الحقّ في غير جيل. وخير ما يؤكّد أنّ ما نقرأه يخصّنا، هو أنّ واضعه يتكلّم على الديانة التي ترضي "الله الآب". فهذا الذكر، ذكر الله الآب، هو الذي يوضح معنى ما أراده من قرّائه الأوّلين ومنّا في آنٍ، ويمدّه إلى آفاق لا تنتهي. لا نريد أن نفترض. لكن، كان بإمكان الرسول، في تعريفه المذكور، أن يقول "التديّن الطاهر النقيّ عند الله"، أي من دون أن يذكر الآب علنًا، ويبقى قوله كاملاً لا لبس فيه. أمّا هو، فمن دون أن يتجاوز ابن الله وروحه القدّوس، حدّد، عن قصد، مَنْ يقصده. وقصده أن يحثّ كلّ مَنْ تصل إليه كلمة الخلاص على أن يعتبر أنّ الحياة في المسيح تقوم على وعي أنّ الله الآب قد تبنّانا جميعًا بنعمة روح ابنه. فالرسول يعرف، ويريدنا أن نعرف، أنّ كلّ مؤمن، في عائلة الله، إن أراد أن يكون طاهرًا فعلاً، فعليه، ما حيي، أن يبحث عن رضا الله أبيه. كلّ ما قاله يعقوب، إنّما هدفه الوحيد أن نسعى إلى أن نرضي الله الآب، أبانا، في كلّ ما يرضيه هو.
من علامات رضا الآب أن "نفتقد اليتامى والأرامل في شدّتهم". ويمكننا أن نزيد، من دون أن نبتعد عمّا قصده الرسول، أن نفتقد كلّ أخ، أيًّا كان جنسه أو عمره أو دينه أو مذهبه، ليس له من معين غير الله. فإذا فهمنا أنّ الناس جميعًا هم أولاد لآب واحد، ففهمنا عينه يلزمنا أن نسعى، ليل نهار، إلى أن نكسر كلّ طبقيّة مقيتة تجعل بعضًا يتوهّمون أنّهم فوق وآخرين تحت، ونرتقي إلى قبول مَنْ ربّما لا نرى أنّ ثمّة شيئًا يؤهّلهم لأن يُعتبَروا أولادًا لله، إخوةً لنا حقًّا. ويجب أن ننتبه إلى أن الرسول لم يُردنا، في قوله، أن نشفق على مَنْ ذكرهم فحسب، على أنّ الإشفاق من مقتضيات حياتنا الأخويّة (أنظر مثلاً: 1بطرس 3: 8)، بل أن نفتقدهم. والافتقاد من معانيه الطيّبة أن نجتهد في بحثنا عن كلّ مَنْ جعلته شدّته غائبًا عنّا، أو بعيدًا من عيوننا، أو شخصًا يشعر بأنّنا لا نودّ أن نراه، أو لا نودّ فعلاً، لنصحّح حياتنا بمدّ يد المعونة إليه في غيبته، ومساعدته على أن يستعيد وجوده، أي على أن يسترجع كرامة أنّه ابن لله أبينا.
لا يتغيّر المعنى في ما قاله الرسول عن صيانة الإنسان نفسه من الدنس في هذا العالم. فهذه هي الصفة الرئيسة لكلّ مَنْ يحيا، واعيًا أنّه ابنٌ لله الآب، في عالمٍ يأخذه غيرُ وهْم. وإذا دقّقنا في هذا القول، فلا يفوتنا أنّ الدنس ليس هو، فقط، أن يرتضي أحدنا أن يتلطَّخ بمكروه أو بوَسَخ، هذا حدود ما تقوله كتب اللغة، بل، أيضًا (أو أوّلاً أو دائمًا)، هو أن ينسى، عن قصد أو عن غير قصد، أنّ الله أبوه، وأنّ له إخوةً كثيرين يريده الله أن يحيا وإيّاهم أعضاء في عائلته، وتاليًا أن يساعد الواقعين في الشدائد منهم على أن يستردّوا عضويّتهم الكنسيّة بالمحبّة المبذولة التي هي، وحدها، قيمة الوجود. فالمسيحيّة، التي هي ديانة الطهر بامتياز، لا يقبل حقّها أن يكتفي أيّ مَنْ فيها بنفسه، ولو التزم كلّ ما تطلبه كنيسته من أصوام وصلوات، ولو برّز في علمها بروزًا عظيمًا. المسيحيّة كلّها أن نأتي، في كلّ ما نعرفه ونقوله ونعمله، من أنّ الله شاءت عزّته أن يضمّنا إلى "أهل بيته"، لنحيا، كلّنا معًا، أبناء أحبّاء، إخوةً، بكلّ ما للكلمة من معنى.
يبقى أنّ تأمّلنا في ما سلّمنا إيّاه الرسول لا يكمل إن لم نستقرّ في معرفة أنّه أرادنا، في قوله، أن نقتدي بطهر ابن الله الوحيد الذي أرضى أباه حتّى النهاية. فإنّما حياتنا كلّها، أجل كلّها، أن نسعى إلى أن نتشبّه بربّنا يسوع الذي افتقدنا حيث لم نكن شيئًا، ليجعلنا، في عيني أبيه، كلّ شيء.
21 تشرين الأوّل 2012