الأب إيليّا متري | Father Elia Mitri

التحزّب في الكنيسة

هذا التحزّب لعنة لعينة حكم عليها العهد الجديد، واعتبرها آباء كنيستنا "شرّ الشرور".

أوضح كلام إنجيليّ، يدين هذه اللعنة، سجّله بولس الرسول في مطلع رسالته الأولى إلى كنيسة كورنثوس. نقرأ: "أخبرني عنكم، أيّها الإخوة، أهل خلوي أنّ بينكم مخاصمات. أعني أنّ كلّ واحد منكم يقول: "أنا لبولس" و"أنا لأبلّس" و"أنا لصخر" و"أنا للمسيح". أتُرى المسيح انقسم؟" (1: 11- 13).

سأنحصر في هذه السطور الرسوليّة التي تبدو أساسَ اعتبار آبائنا هذا التحزّبَ أعلى الشرور.

أكثر ما يدعو إلى الدهش، في هذه الآيات التي تجمع اسم المسيح إلى أسماء ثلاثة من رسله، هو ذكر اسم المسيح إلهنا. هل كان في كورنثوس قوم يتباهون بأنّهم عرفوا المسيح شخصيًّا؟ لا أعلم إن كان هناك جواب واحد عن هذا السؤال. لكنّ هذا لا يمنعني من أن أكرّر اندهاشي من إدراج اسم المسيح ضمن أسماء أشخاص تتلمذوا عليه (مباشرةً أو في جماعته)! هل كان بعضهم، أي هؤلاء الذين يدّعون أنّهم للمسيح، يعتقدون أنّهم أوفى من الجماعة كلّها في التزامهم تعليم الربّ؟ هذا، استكبارًا مقيتًا، يرد في سياق أيّ تحزّب. أليس الذين يتحزّبون يدّعون أنّ الذين لا يقولون قولهم يخالفون الأصل الذي هم وحدهم أمناء عليه؟ هذا حالهم، طبعًا. هل يمكنني تقديم جواب آخر غير الأجوبة التي تُشتمّ في هذه الأسئلة؟ ليس جوابًا، بل خاطرة أرجّحها في سياق يصعب عليَّ أن أقطع فيه. وهذه أنّ الذين يَذكر الرسول أنّهم تحزّبوا للمسيح قد اعتقدوا أنّه، أي المسيح، يمكن أن يختلف عن جماعته، أو أن يخصّ بعضًا أكثر ممّا يخصّ سواهم. ألا يعني هذا قوله إليهم: "مَن اعتقد أنّه للمسيح، فليفكّر في نفسه أنّنا نحن أيضًا للمسيح بمقدار ما هو له" (2كورنثوس 10: 7)؟ أحبّ أن أقرأ بولس يعنّف قومًا شعر بأنّه قد دخلهم أنّ المسيح ربّنا رأس بلا جسد، أو ببعض جسد! وما يجعلني أرتاح إلى هذا الترجيح هو سؤاله الذي يختم قوله المنقول إلى هنا.

"أتُرى المسيح انقسم؟". لهذا السؤال رنّة توحي بأنّ بولس جاء به إلى سطور يردّ فيها على كلّ مخاصمة غبيّة في الجماعة، ليعلن، بأعلى صوته، الأساس الذي يكشف إن كانت مجموعة ما تخصّ المسيح فعلاً أو غريبةً عنه. هل أعني أنّه أراد من أهل كنيسة كورنثوس (بل من كلّ جماعة كنسيّة في الأرض) أن يعتقدوا أنّهم، في تحزّبهم، يخرجون أنفسهم من جماعة المسيح؟ أجل، أجل! فالمسيح لا يمكن أن ينقسم، بل الناس إمّا يؤمنون به إلهًا جامعًا، أو ينفصلون عنه. هذا السؤال يبيّن أنّ ما هم عليه من تحزّب لا يجعلهم قومًا إزاء أقوام آخرين، بل يلغيهم. لم يقل لهم: هل سألتموني إن كنت أرغب في أن يكون بعضكم حزبي؟ هل سألتم أبلّس أو صخرًا؟ هل المسيح أوحى لكم بموقفكم؟! مَن علّمكم أنّ صخرًا (أو أبلّس) يأنف من أن يموت من أجل خلاص أيٍّ ممَّن تنسبونه إليَّ أو إلى سواي؟! لكنّ هذا يجب أن نصغي إليه، حرفًا حرفًا. والبليغ، في ما قاله، أنّه يبدأ استعراض الأحزاب بالحزب الذي يدّعي أنّه ينتمي إليه.

إذًا، يأبى بولس أن يكون رئيس حزب. هذا لا يراه خطرًا عليه وعليهم جميعًا فقط، بل على الجماعات المسيحيّة كلّها. فالجماعات، أي كلّ جماعة انتسبت إلى المسيح في كورنثوس وسواها، إنّما تحيا من انتسابها إليه وحده. ليس للذين يتحزّبون في جماعة المسيح، أيًّا كان عددهم، من أيّ قيمة تُذكر. بمعنى أنّك إن وجدت مجموعةً تأبى كلَّ مَن هم سواها، تعدّ مئتي شخص، في رعيّة عددها مئتان وواحد، فأدرك أنّ هذه مجموعة تافهة نافرة لا قيمة واقعيّة لها. فقط الذين يرون إلى المسيح جامعًا السماء والأرض، أو بمعنى لا يختلف: يرون إلى كنيسته واحدةً أعلى شأنًا منهم، أيًّا كان عددهم، هم "جسد المسيح".

هذا يدفعنا إلى أن نرى بولس، في كلامه، يأبى، أيضًا، أن يكون من دون أبلّس (ومَن يعتبرون أنفسهم جماعته) وصخر (ومَن يقولون إنّهم له)... وهذا ما أرادهم أن يأبوه هم أيضًا. التحزّب، الذي يفصلنا عن المسيح رأسنا، أي يجعلنا تافهين نافرين، يفصلنا، في الآن عينه، عن الذين ارتضى أن يضمّهم إليه. ليس في الرسالة من دليل ظاهر على أنّ ثمّة رؤوسًا لهذه الجماعات نسبوا أنفسهم إلى هذه الأسماء الكبرى، ليقووا بها. لكن، هل هذا يحتاج إلى دليل؟ فمن المستحيل أن تنشأ مجموعة تدين برئيس، وتأبى سواه، لا يحرّكها "رأس" (منظور أو غير منظور!). هذا يجب أن نقرأه في هذه الآيات أيضًا.

إذًا، الحزبيّة في الكنيسة لا علاقة لها بالكنيسة. إنّها كذب على الحقّ واستسلام لإغراء إبليس الذي لا همّ له سوى أن يلعب في عقول الناس ويشوّهها، ويفصل الجماعة بعضها عن بعض (قابل مع: يعقوب 3: 14 و15). كان بولس يعرف ما لا يعرفه معظمهم. أقول معظمهم. فثمّة، في كورنثوس (وفي سواها من الكنائس التي ضربها التحزّب)، مَن يعرفون. ثمّة أناس يحرّكون إخوة، جددًا أو لمّا يثبتوا في التزامهم، أي يستعملونهم أداة، ليخربوا الكنيسة. كان بولس يهاجم الكيد الغبيّ، ويدافع عن الإخوة الضعفاء.

ثمّة عبارة، في قول الرسول، أودّ أن أسجد لها في خاتمة سطوري. وهذه العبارة: "أيّها الإخوة". هل أراد بولس، في مناداته إيّاهم إخوةً في هذا السياق، أن يبيّن لهم أنّه ما زال يراهم قادرين على أن يأتوا من كلمته، فيصالحوا الحقّ؟ أعتقد ذلك. فالناس في الجماعة قد يخطئون. لكنّ برّهم قريب إن صحّحوا أنفسهم بقبول الكلمة المجدّدة التي تنجّينا من كلّ لعنة، وتردّنا إخوةً إلى خير الجماعة الواحدة!

- مجلّة النّور، العدد الثامن، ٢٠١٣
شارك!
Exit mobile version