"إنّ رغبتي الأرضيّة قد صُلبت، لم يبق فيَّ أيّ نار، لأحبّ المادّة. لا
يوجد فيَّ غيرُ "ماء حيّ" يدمدم في أعماقي، ويقول: تعال إلى الآب"
(رسالة القدّيس أغناطيوس الأنطاكيّ إلى أهل رومية 7: 2)
منذ نشوء التيّار النهضويّ، ردّد الإخوة المعتبَرون أنّ الالتزام الكنسيّ لا يقبل أن يكون مرحليًّا، أي أن يختصّ بعمر من دون آخر. ولست بمعتقد أنّ الدافع إلى هذا الترداد كان، حصرًا، أنّ بعضًا صفعوا عيون المردِّدين بإهمالهم التزامهم، بل الأمانة للحقّ الذي يجعل الالتزام مرادفًا للثبات.
أن تردِّد الحقّ في غير زمن، ولا سيّما في أزمنة الفوضى، أمرٌ من صميم إيمانك بفعل الحقّ الذي لا يبطل فعله. فأنت لا يمكنك أن تعرف ما يريده الله منك من دونِ وحيٍ منه. أيًّا كان ما يريده، إن توطيدك في ثباتك، أو ردّك عن معصية، لا يمكنك أن تعرف. فالله، الذي يضيء الجنان بحضوره الحيّ، لم ينقطع عن صحارى الأرض. فـ"للربّ الأرض وكلّ ما فيها / الدنيا وساكنوها" (مزمور 24: 1). وبهذا المعنى، كلّ تردادٍ راضٍ يحمل، في طيّاته، تذكيرًا يعوزه، في آنٍ، المخلصون والذين ساروا في دروبٍ أخرى. وهذه دروبٌ قد يكون لِمَنْ يسلكونها ما يبرّرها عندهم. ليس الخروج على الالتزام من دون علّة دائمًا، علّة، وإن لا يمكن أن تقنعك، تراها تقنع لا سيّما مَنْ خرجوا، أو دخلوا الجماعة عفوًا، وعاشوا فيها كما لو أنّهم من خارجها.
بلى، هناك مَنْ يخرجون على الالتزام انفعالاً. وبلى، هناك مَنْ يُحرَجون، فيخرجون. وهناك دوافعُ خروجٍ أخرى عديدة. ولكن، من دون أن نبدو أنّنا نشرِّع أيًّا من أنواع الخروج، هناك، أيضًا، مَنْ يفعلون فيما تراهم يتعلّلون بعلل جارحة. والعلل الجارحة ليست جديدةً بالكلّيّة. لقد قرأنا عنها. وإن تغيّر بعضُ شكلِ ما قرأناه، يبقى، في جوهره، هو عينه في كلّ حين. "قد اشتريتُ حقلاً، فلا بدّ لي من أن أذهب فأراه". "قد اشتريتُ خمسة فدادين، وأنا ذاهب لأجرّبها". "قد تزوّجتُ، فلا أستطيع أن أجيء" (اقرأ مثل "المدعوّين المتخلّفين عن الدعوة" في: لوقا 14: 15- 24). وهذا يعني أنّ العلل الجارحة تجد ذاتها في كلّ مجد فارغ أحسب أنّه يثبّتني في الأرض. والمعضلة الكبرى، التي نراها تضربنا بسهولة، أنّ بعضنا، "عارفًا"، أخذ يقرأ الكتب المقدّسة من دون أن يرى، في ما يقرأه، رسالةً موجّهةً إليه خصوصًا، أجل إليه خصوصًا، ليسترجع قلبه، ويثبت في الحقّ. يقرأ كلمات الحياة، عمومًا، على أنّها تعني غيره. لا يرى الكثيرون، في ما نطقه الربّ وفعله، قصّتنا الشخصيّة معه، أو قصّته معنا. هل، بما أقوله، أبدو أنّني ضدّ أن يعمل الإنسان، أو أن يتزوّج مثلاً؟ لعمري، لا. لكنّني ضدّ أن يكون، بدراية منه أو من دون دراية، ضدّ نفسه.
أن يكون الإنسان ضدّ نفسه، لهو أن ينحصر بنفسه (بنفسه، أو درسه، أو عمله، أو عائلته، أو غيرها من أمور الحصر). أن يختزل الالتزام بما يراه يناسبه، ويعلّيه باعتباره المقتضى الذي اقتضاه الله له. وهذه، التي تزعج آذاننا وعيوننا صباح مساء، آفة لا يمكن أن يسقط فيها، فقط، مَنْ "جعلهم جهلُهم غرباء عن حياة الله" (أفسس 4: 18). فيجب ألاّ نخجل من أن نقرّ، بصوتٍ عالٍ، بأنّ ثمّة خطايا نقود أنفسنا إليها بعد أن نبدو أنّنا قد تسربلنا بحلّة الوعي! بلى، الواعون قد يزلّون. الواقفون قد يسقطون. وعلى الألم الذي يخلّفه هذا السقوط، تراهم، أحيانًا، يزلّون بسهولة جارحة. وترى بعضهم لا يعترفون بزللهم، أو، بما يؤلم أكثر، لا يشعرون بأنّهم يفعلون. وهذا حذّرنا الربّ منه في مواضع عديدة. ويحلو لنا، هنا، أن نستنجد تحذيرًا قاله إلى ملاك الكنيسة التي باللاذقيّة، أي: "أُشير عليك أن تشتري منّي ذهبًا منقّى بالنار لتغتني، وثيابًا بيضًا لتلبسها، فلا يبدو عار عريتك، وإثمدًا (حجرًا يكتحل به لشفاء العين من مرضها) تكحل به عينيك ليعود إليك النظر" (رؤيا يوحنّا 3: 18). لقد أُعطينا أن نقرأ هذا التحذير الإلهيّ. ولكنّنا لم نعطَ أن نرى ما كان ردّ فعل مَنْ وصل إليه. كلّ ما يمكننا تخمينه أنّه قد سقط عليه، كما الصاعقة، من دون أن ينتظره. فجأةً! لا نريد أن نحصر الوعي بِمَنْ كُلِّفوا مسؤوليّةً في الجماعة. لكنّ الآية، التي اقتبسنا عطرها من فم الربّ، تحبونا عن إهمال ذكرهم. فما يصدم، فعلاً، أنّ الربّ، في هذا القول الرؤيويّ، يخاطب ملاكًا، أي أسقفًا في الجماعة. وإن تتبّعنا ما أراده منه (ومن كلّ واحد منّا أيضًا)، نجده يحثّه على أن يتوب، ويعمل الخير، ويصالح نقاء معموديّته، لئلاّ يظهر عار عريته، أي لئلاّ يخزى، أمام جميع الذين أخلصوا لله الودّ، متى وقف أمام منبره عاريًا. وهذا، الذي تبدو أسبابه في الفتور المستقبح وفي ظنّ الاستغناء المَرَضيّ (أنظر: الآيات 15- 17)، يبيّن شيئين يدعماننا في سياقنا. أوّلهما أنّ ثمّة مَنْ يستخفّ بالتزامه بعد وعي. وثانيهما أنّ الربّ لا تمنعه خطايا الناس، أيًّا كانوا، من أن يتبعهم، ويذكّرهم بحقّه دائمًا، ليتوبوا إليه توبةً نصوحًا تردّهم إلى جهادهم. فالله، وإن اعتقدنا أنّ خطايا الناس تجرحه كثيرًا، (وهذا حقّ كلّيًّا)، يجب أن نضمّن اعتقادنا أنّه لا ينفكّ يريدنا طاهرين، وإن تهنا، أن نسترجع نقاء التزامنا، لنثبت فيه، ونفرح. فالله، الذي يعرف أنّ السماء ستصدم الكثيرين منّا في يومه، يبقى الله الذي يريد أن يطعمنا، وارثين معه في مجده، "منًّا خفيًّا" (رؤيا 2: 17). هذا من دوافع محبّته وجماله ولطفه، أي من دوافع رحمته التي يصرّ على أن يتبعنا بها حتّى إلى أبواب قبورنا.
الالتزام ثباتًا، إذًا، لا تنبع إرادته من بشر، أيًّا كانوا. وإن قلنا لا تنبع من بشر، فلا نعني أنّ البشر ليس لهم أيُّ دورٍ فيه، بل أن نؤكّد أنّ كلّ حركة حبّ نحو الله، في هذا الوجود، اللهُ وراءها وفيها. وهذا، الذي يفتح الالتزام على آفاقه الإلهيّة، يجعل عدم الثبات شرّ الشرور. كلّ مخالفة، كلّ عرج، كلّ تراجع، كلّ ضياع، إنّما هو استخفاف بما أنعم الله به على كلٍّ منّا. وهذا يحضّنا جميعًا، في أيّ موقع كنّا، على أن نتبصّر في وضعنا دائمًا، وأن نفحص قلوبنا باستمرار. فإن كانت إرادة الله خلاصنا، فيجب، ما حيينا، أن تحاكي إرادتنا إرادته. يجب، ما حيينا، أن نتجنّب كلّ فكر غريب يريد أن يوهمنا بأنّه الحقّ. ما يعني أن نراجع قناعات، ربّما تسرّبت إلينا من دون أن ندري، قناعات تناقض وعي حقّ "محبّتنا الأولى"، قناعات تشوّه حياتنا ومصيرنا. فقد يعلو، عندنا، أن نختزل الالتزام بما يرضينا فحسب. قد يعلو أن نشرّع اهتماماتنا الأرضيّة، ونجعلها تعادل كلّ ما شاءه الربّ لنا. قد يعلو أن نبرّر تخاذلنا بأمور وأمور. لا يعوزنا أنّ نكرّر أنّنا لا نريد، بما نقوله هنا، أن نشجّع أحدًا على أن يهمل عمله ورعايته أهل بيته وما إليهما، بل أن نذكر دائمًا، فيما نعمل ونرعى، وفيما نقعد في بيوتنا ونمشي على الطرقات، وفيما ننام ونقوم، أنّ الله هو حياتُنا، أي أن نبتعد عن كلّ ما يوهمنا بأنّ حقّ الله وأمور حياتنا أمران لا يمكن أن يلتقيا، خطّان متوازيان. فللأسف، هناك مَنْ يأخذهم هذا الوهْم. وهناك كثيرون تراهم يحبّون الله والعالم في آنٍ! ولسنا بوارد إدانة أحد إن قلنا إنّ كلّ خلط ما بين الحقّ والباطل يهين الله وكلّ مَنْ أثبت، في حياته ودمه، إن قدّيسين منتصرين أو مجاهدين، أنّ "الله أحقّ بالطاعة من الناس" (أعمال الرسل 5: 29).
عندما تكلّمت حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة على الثبات في الالتزام، ردّدت كلّ ما أراده الله لخيرنا جميعًا. يبقى أن نوافق الله الذي لا يوافقه أن تكون المسيحيّة أمورًا تُحكى ويصعب تنفيذها، أي دنيا مثاليّات، أو، بما ينساب سياقنا، تخصّ جيلاً من دون آخر. ويبقى، دائمًا، أن نفتقر إلى إله شاء أن يفتقر إلينا، لنغتني به في كلّ شيء. فسرّ ثباتنا أن ندرك أنّ الله قائم في ما قاله، ليحقّق فينا، أحرارًا، كلّ ما يرضيه، ويضمّنا إليه بالطاعة التي تبدي الكنيسة، وكلّ عضو فيها، موئل التزام أبديّ.