في الرسالة الثالثة، يشهد يوحنّا لرجلٍ، اسمُهُُ ديمتريوس، بقوله عنه: "أمّا ديمتريوس، فجميع الناس يشهدون له ويشهد له الحقّ نفسه، ونحن أيضًا نشهد له، وتعلم أنّ شهادتنا حقّ" (الآية الـ12). مَنْ هو ديمتريوس؟ ولِمَ ذكرَهُ يوحنّا، بهذا التخصيص الظاهر، في رسالته؟
عن السؤال الأوّل (مَنْ هو ديمتريوس؟)، كلّ ما يمكننا تخمينه أنّه إمّا واعظ متجوّل عرفته الجماعة التي خصّها يوحنّا بهذه الرسالة، وإمّا عضو بارز فيها. أمّا لِمَ ذكرَهُ، فسؤالٌ يلزمنا جوابُهُ أن نعرف أنّ الرسول أتى على ذكر ديمتريوس، توًّا، بعد ذكرِهِ شخصًا آخر، اسمُهُ ديوتريفُس، أساء إلى الكنيسة بتعاليه على الكلّ. عن هذا، الذي كان رئيسًا في الجماعة، قال يوحنّا مخاطبًا قارئه: "لا تتمثّل الشرّ". وأمّا عن الآخر، فمهّد لذكره بقوله: "مَنْ يعمل الخير، فهو من الله" (الآية الـ11). وهذا يكشف أنّ الرسول إنّما ذكر ديمتريوس، ليحثّ قرّاءه على اقتفاء أثره. هل شعر بأنّ مَنْ يخاطبهم يعوزهم أن يتشدّدوا بالخير؟ يمكن. بلى، لقد ذكر يوحنّا خير غايس الذي وجّه إليه رسالته. هل خاف أن يغترّ غايس باعتباره نفسَهُ مواليًا وحيدًا له، فذكر ديمتريوس؟ وعلى ما في هذا الخوف من رنّة تربويّة، أمور عدّة في الرسالة (سلامه "على الأصدقاء" في خاتمتها، مثلاً) تمنعنا من أن نبحث عن جواب لهذا السؤال. كلّ ما يمكننا تأكيده أنّ يوحنّا كان يعلم بأنّ الجماعة ستضمّ، ربّما إلى منتهى الدهر، أشخاصًا يقبح ذكرهم، وآخرين ينيرهم ربّهم بضياء حقّه. وأراد أن يدرك قرّاؤه أين عليهم أن يسمّروا عيونهم، ليستدرّوا الخير المنجّي.
قلنا إنّ ديمتريوس ربّما كان واعظًا يحمل الكلمة، أو عضوًا بارزًا في الجماعة. وهذا يعني أنّه لم يكن رئيسًا على أحد. وإذا علّينا افتراض كونه عضوًا، فتبدو المقابلة صعبةً، بشريًّا وليس إلهيًّا، بين رئيسٍ يجحد الإيمان في سلوك معيب، وعضوٍ آخر كلُّ مكانته تنبع من طاعته. هل هذا يسمح لنا بالقول إنّ حقّ القدوة لا يرتبط بالمواقع حصرًا؟ أعتقد ذلك. فكلّ ما يعني يوحنّا الرسول هو انتشار الخير. أينما يظهر، يجب أن يغدو قِبلة العيون. وهذا، أبدًا، يعزّز كون الكنيسة ليست مرهونةً لأحد، أيًّا كان، اللَّهمّ لسوى الخير ظاهرًا.
لم يستفض يوحنّا في حديثه عن فضائل ديمتريوس. فقط، أشار إلى خيره الذي رأيناه معنى لطاعة الكلمة التي تطلب أن تمشي، لتستقرّ، وتستقرّ، لتمشي. هل فضيلة واحدة تعرّي كلَّ شرٍّ في الكون؟ يبدو أنّ الرسول لم يحتج إلى سوى ذكر واحدة، ليضرب، ضربة معلِّم، ديوتريفُس الذي أراد ضرب كنيسته بتعاليه الأرعن. ذكر واحدةً، فجرّد رئيسًا، في الجماعة، من كلّ شأن. أظهره عاريًا، مظلمًا. كشف، ببراعته المعهودة، أنّ الرئاسة ليست موقعًا، بل فضائل يحكم ثباتُها حكمًا مطلقًا، حكمًا أبديًّا. أراد، في إشارة سريعة، أن ينبئ أنّ الرئاسة تحوّلت من شخص مكلَّف رسميًّا إلى آخر غير مكلَّف ظاهريًّا. إلى آخر "عاديّ". آخر يحييه أن يتلقّى الكلمة من فوق دائمًا. وهذا، الذي يدلّ على الخير الكلّيّ، يعني أنّ الرئاسة، إن فقدت كونها موقعًا لتضوُّعِ الخير، يقيم الخير موقعًا رئاسيًّا له. وكان الخير يطفح من هذا الآخر، ديمتريوس.
ليس في الرسالة دليل على أنّ ديوتريفُس قد ارعوى. هل رجع عن جهله في ما بعد؟ لا نعرف. كلّ ما نعرفه أنّ يوحنّا لم يُقفل رسالته على مثالٍ قاتم. أضاء قرّاءه بحثّهم على الاقتداء بِمَنْ يشهد له الحقّ والناس جميعًا. لا نعرف إن كان لديوتريفُس مَنْ يصفّق له (أي جماعة تتبعه في غيّه). ربّما كان له. فالشرّ يبدو أنّ له مَنْ يتبعه دائمًا. إذا كان له، فيكون يوحنّا قد أراد، لا سيّما في ذكره ديمتريوس، أن يثبّت أنّ الكنيسة لا يحييها ضجيج التصفيق. ما يحييها إنّما هدوء مَنْ تجتمع السماء والأرض على فضائلهم. ذكرُ ديمتريوس يدلّنا على أنّ لله قاعدةَ حكمٍ لا يمكن أن تُغتصَب. وقاعدتُهُ نفسُهُ، أو كلمتُهُ، أو شهودُهُ، ما من فرق. كان الرسول كما لو أنّه يقول لنا: "وإن صفّقت الدنيا لرئيس أضاع رشده، فيبقى الحكم لله القادر، دائمًا، على أن يخزي المصفّقين وقائدهم بوجهٍ ربّما لم ينظروا إليه، يومًا، نظرة اعتبار". قَلَبَ يوحنّا المقاييس!
لا يسمح لنا نصّ الرسالة بأن نتبع آثار ما خلّفه قول الرسول لا سيّما في قلب ديوتريفُس. لكنّ هذا لا يمنعنا من أن نستريح إلى اعتبار أنّه قد صُدم. وهل ثمّة أمر يصدم يفوق أمر أن تبيِّن لأحد، ولا سيّما إن كان رئيسًا في الجماعة، أنّه قاد نفسَهُ إلى خارج الله وشعبه؟ لنراجع، جيّدًا، ما قاله يوحنّا. لقد ذكر أنّ جميع الناس والحقّ نفسه ورسوله يشهدون لديمتريوس. أين بات ديوتريفُس؟ خارجًا! لم يكن يوحنّا، بهذا التعداد المفصَّل، يبالغ بارتجاله كلامه ارتجالاً، بل كان يُري "الشرّ" (وأتباعه) موقعه الحقيقيّ (خارجًا). قال له من دون أن يقول لفظًا أو يخاطبه مباشرةً: "إنّ مَنْ يعتبر نفسَهُ أوفر شأنًا، في عينَيْ الله، من جميع خلقه، ليس له موقع في كنيسته". قال له: "لا تدوم رئاسة رئيس ينسى أنّ الله لم يعطِ بشريًّا أن يضمن خلاصه ضمانًا أبديًّا، بل تدوم إن حيا واحدًا في جماعة إخوة كلُّهم تلاميذ للحقّ ولشهوده".
هذه الكنيسة الرائعة لا تخلو من الخير. فالربّ، "الذي أحبّنا فحلّنا من خطايانا بدمه، وجعل لنا مملكةً من كهنة لإلهه وأبيه"، لا يمكن أن يترك جماعته من دون شهود يُنيرون سبيلنا إلى ما فيه خيرنا. يبقى لنا، اليوم وغدًا، أن نعرف كيف نرمي الشرّ "وأحاديثه الخبيثة" بعيدًا منّا، ونلزم الاقتداء بالخير. ففي هذا الاقتداء الراضي فحسب، نعلّي رئاسة الفضيلة التي تنقذنا طاعتها في أوان الخزي، وتجعلنا نرجو أن نستأهل شهادة الحقّ نفسه.