29مايو

الابن الشاطر

                مرّرتَني اليوم.

                لِمَ؟

                سؤال أريد أن أرفعه في هذه السطور.

                مَنْ يعرفْ تعليم الربّ، لا يَلِقْ به أن يخالفه. هذا سمعتَهُ منّي مرارًا. فالمعرفة التزام، أي فعل ظاهر. وهذا، كما شأني دائمًا، لا أقوله لك بحكم "خدمتي". كلّ مؤمنٍ دعوتُهُ أن يشبه كلّ كلمة خرجت من فم الربّ.

                يا بنيّ، ثمّة، في العالم، مَنْ يعتقدون أنّ تعليم ربّنا يلزم بعضًا أكثر منهم. وثمّة آخرون، موقفهم أكثر تطرّفًا، يرون أنّه يلزم بعضًا من دون الآخرين. والحقّ أنّ الربّ لا يُلزم أحدًا أن يلتزم أيّ كلمة وجّهها إلينا، بل يعرض ما يريده عرضًا. ونحن، أحرارًا، إمّا ننفّذ إرادته، أو نهملها. وأمّا مَنْ ينفّذها، فيوافق الحرّيّة التي أنعم الله علينا بها. المسيحيّة مذهب حرّيّة، أي مذهب أشخاص تقودهم محبّتهم لله إلى أن يرغبوا هم، بما نالوه من نِعَمٍ، في أن يحيوا وفق طاعته. وهذه هي قاعدة علاقتنا ببعض. فإنّ محبّتنا لبعضٍ تعني أيضًا، ويجب دائمًا، أن نَقبل الحقّ بعضنا من بعض. بمعنى أنّك، إن رأيتَني أحبّك، (وأنت تعرف أنّني أحبّك كثيرًا)، فعليك أن تتّكئ على الحقّ الذي تسمعه منّي. وأعرف، وتعرف، أنّ الإنسان قد يفهم محبّة ذويه خطأً. وهل من خطأ أعلى من أن نبرّر خطأنا باعتبار أنّنا محبوبون؟!

                هل تدري؟

                ما من أمر مزعج كما أن يشعر أبٌ بأنّ أحد أولاده يتّكل على محبّته، ليرتكب عيبًا. والولد، (وأقصدك أنت هنا)، لا يرتكب أيّ عيب إن لم يفهم محبّة ذويه على هواه. هذا، كما تعلم، يجسّده مَنْ يعلّون رحمة الله، ليرتكبوا المثالب، ويجترّوها. الناس، وأعني معظم المسيحيّين، يعتبرون أنّ الله موجود، ليسامحهم حصرًا، ويسامحهم دائمًا. لا يعرف الكثيرون أن يميّزوا بين "لين الله وشدّته". ويصلبون ربّنا على لينه. والربّ ارتضى أن يُصلب، ليهبنا مغفرة خطايانا التي قادته إلى الصليب. تصوّر! تصوّر ما أصعب ارتكاب العيب عندما نعرف أنّه كان سبب صلب ابن الله!

                ماذا أريد أن أقول لك هنا؟

                أو: ماذا أريد أن أقول لنفسي؟

                اليوم، يأخذني مَثلُ "الابن الشاطر"، ذاك الذي روى الربّ عنه أنّه خالف أباه، (أي الله)، وتاب أبوه عليه بعد أن رآه تائبًا إلى بيتهم. يأخذني، ويريني نفسي قزمًا حقيقيًّا.

                الابن الشاطر؟

                مَنْ هو في هذه السطور؟

                إنّما هو أنا.

                ربّما تظنّ أنّ أباك، بما يكتبه هنا، قد جنّ فعلاً. فأنت تراه في "البيت"، ويقول لك إنّه الابن الشاطر. لا، أنا لستُ مجنونًا. وحتّى تفهم ما تقرأه، أو ما قصده ربّنا في هذا المثل، عليك أن تأخذه كلّه حرفًا تلو رفيقه. فنحن لا نخطئ عندما نشبه الابن الشاطر فحسب، بل، دائمًا، عندما نأبى أن نتشبّه بأبينا السماويّ. فالابن الشاطر خطيئته الحقيقيّة أنّه ترك البيت (أو صاحب البيت) قَبْلَ أن يتركه. وفي الواقع، هذا ما تعلّمه كنيستنا عن غير خطيئة. فنحن، مثلاً، لا نكذب، لا نغضب، لا نحقد، ولا نرتكب أيّ سوء آخر، مهما كان صغيرًا أو كبيرًا، قَبْلَ أن نكون قد خرجنا على التشبّه بالله. هذه هي الخطيئة الحقيقيّة. أمّا ما نرتكبه من خطايا، فإنّما هو نتيجة هذه الخطيئة التي هي الخطيئة الوحيدة في الكون.

                إذًا، عندما أستصعب أن أشبه الله، ولو للحظة، ولو في موقف، أكون ابنًا شاطرًا. وأنا، اليوم، أرى نفسي الابن الشاطر بتطابقٍ عجيب!

                ربّما تعتقد أنّ ما أقوله لك، الآن، يدفعني إليه تسرّع تثيره دوافع أسترها. فأنا خوفي أن تهمل هدف السطور بظنّك أنّ كلّ همّي أن أدافع عن موقعي في بيتنا. إن كنتَ ظننتَ أو لم تفعل، فسأجيبك: لعمري، لا. فأنا ليس لي معك من دوافع غير مكشوفة. كلّ حياتنا مكشوفة.

                قلتُ لك إنّني أحبّك. أحبّك، وأريدك أن تبقى في البيت اليوم وغدًا. لكنّني لا أرجو لك، ولو للحظة، أن تكون في البيت كما لو أنّك خارجه. ليس بيتنا فندقًا، نأتي إليه عندما نشاء، ونتركه متى شئنا. البيت هو نحن معًا، أي في حياتنا معًا. وتسكنه، أي تسكن إلى مَنْ فيه. وتحترم نفسك لا سيّما باحترامك ذويك.

                هذا المثل المرعب، مثل الابن الشاطر، لا نقدر على أن نحيا كما لو أنّ الربّ لم يقله. لا نقدر على أن نتجاوز معانيه المحيية. أنا اعترفتُ لك بأنّني، اليوم، قد استصعبتُ أن أشبه أبا الصبيّ. وهذا الأمر يغضبني، ويمرّرني.

                هل أرى، بما أقوله، أنّك مسؤول عن مساعدتي في ما يجب ألاّ أنساه البتّة؟

                لا أريد أن أحمّلك مسؤوليّة خطأي. أنا أعترف. ولا يعيبني أن أعترف. ولستُ باعترافي أوحي بأنّ ما أنا عليه الآن سيبقى، بإرادتي، إلى ما لا نهاية. فأنا لي اتّكال راهن على الله أن يساعدني في طموحي دائمًا. وإن أردتَ أن تشاركني في ما أطمح إليه، فيعنيني أن تفعل. فالمسيحيّة جهاد في سبيل أن ندرك المُنى. وقد يعطينا مَنْ هم معنا أن نرى أين نُخفق في جهادنا. وبهذا المعنى، كلّ إنسان ضرورة في مسيرة جهادنا. إنّه يساعدنا على أن نعرف أنفسنا. وأنا أشكر لك أنّك أهّلتَني لأن أعرف خطأً فظيعًا راودني اليوم.

                لِمَ اخترتُ أن أذكر مَثل الابن الشاطر؟

                لن أروي لك المثل. فحسبي أنّك تحفظه عن ظهر قلب.

                أمّا لِمَ، فلأنّ قصّته تبيّن، بوضوح، أنّ الله هو أبونا الذي يريدنا، أيًّا كان وضعنا، أن نأتي بعضُنا إلى بعض من أبوّته المحيية دائمًا. بكلام آخر، رماني على هذا المثل ما رأيتُهُ فيك اليوم. بلى، أنت، في غير موقف، حلو ورزين. لكنّني لا أحتمل أيّ خطأ تقبل أن يحوط بك بسهولة محيّرة.

                أذكره، وأريد أن أذكره.

                أذكره. وهمّي ليس فقط أن أعلّي عجزي عن التشبّه بالله، بل أن أسترحمه، ليعينني عندما أراك، في موقف ما، أخذتَ تنسى ما يجب ألاّ يُنسى.

                أذكره، حتّى أبقى أذكر أنّ محبّتي لك أقوى من أيّ موقف لك خاطئ أرجوه طارئًا.

                أذكره، حتّى أبقى أذكر أنّ مكانتك في قلبي يجب أن تبقى محفوظةً دائمًا، أيًّا يكن ما عملتَهُ.

                أذكره، حتّى أبقى أذكر أنّك حرّ في قبولك أبوّتي كما في رفضها.

                أذكره، حتّى أذكر، دائمًا، أنّ يدَيَّ خُلقتا، لأضمّك إلى صدري في حضورك، وحين تعود بعد خروج.

                أذكره، حتّى يبقى لك، في بيتنا، كلّ ما هو لك.

                وأذكره، حتّى أقدر، دائمًا، على أن أدافع عنك إذا ساور أيٌّ مِمَّنْ معنا أن يعلّي خطأً لك على محبّـته لك.

                هل أقنعتك أسبابي؟

                ربّما جرحتُكَ!

                أنا أعرف أنّك لا تستحقّ أن أجرحك. وصدّقني، ليس قصدي أن أقسو عليك. فأنا قصدي أن أقسو على نفسي.

                إن كانت نفسي هي التي تعذّبني، لا يعوزني أن أكرّر أنّني لا يمكن أن أتقصّد جرحك. فأنا، أنا، أجلد نفسي بكلمات تعوزها.

                سوف تمرّ السنوات، وتذكرني إن بقيتُ معك، أو غيّبني البَرى. الابن ثمين جدًّا. وإن رزقتَ أولادًا، فستعرف ما قد يصعب أن تعرفه في وضعك الحاليّ. بلى، يحلو لي أن تتحسّس ما أقوله لك الساعةَ. لكن، إن كان عليَّ أن أنتظر، فهل أقدر على أن أغيّر مسيرة الكون؟ ويكفيني، الآن، أن تخاطب نفسك. هذا الخطأ الذي أثارني، أنت قادر على أن تعالجه. فلا تنتظر. عالجه. عالجه بالله أبينا القادر على أن يجدّدك الآن.

                تعال، تعال، لننهي المرارة، ونعود إلى "البيت"!

شارك!

جميع الحقوق محفوظة، 2023
Skip to content