ماذا يعني بولس في قوله لتلميذه تيموثاوس: "اجتهد أن تكون في حضرة الله ذا فضيلة مجرَّبة وعاملاً ليس فيه ما يُخجَل منه، مفصِّلاً كلمة الحقّ على وجه مستقيم" (الرسالة الثانية 2: 15)؟
يمكننا، بدءًا، أن نلاحظ أنّ جزء هذه الآية الأخير هو مستند الدعاء الليتورجيّ الذي يرفعه الكهنة إلى الله من أجل مَنْ أقامته النعمة الإلهيّة أسقفًا على كنيستهم. يقولون: "اذكر، يا ربّ، أوّلاً، أبانا ورئيس كهنتنا (فلان)، وهبه لكنائسك المقدَّسة بسلام، صحيحًا، مكرَّمًا، معافَى، مديد الأيّام، مفصِّلاً باستقامة كلمة حقّك". وهذا يحكم أنّ الكنيسة أخذت هذا الجزء، وأسقطته على كلّ أسقف، في غير جيل، ينحني أمام برّ الكلمة. هنا، لفظة "أوّلاً" يمكنها أن توحي أنّ الكهنة كانوا يذكرون، جهارًا، أسقفهم أوّلاً، ثمّ مَنْ رفعت الذبيحة من أجلهم ثانيًا. هذا، بعد "التقدمة"، هو، عمومًا، موقع الذكرانيّات التي تكشف، في الخدمة الإلهيّة، أنّنا شعب واحد لله الواحد.
أمّا الجواب عن السؤال المسطَّر أعلاه، فيفترض أن نذكر، أوّلاً، أنّ الرسول لم يكتب رسالةً واحدةً، من رسائله جملةً، إلى مؤمن فرد حصرًا. ليس، في العهد الجديد، مِنْ كُتُبٍ شخصيّةٍ بهذا المعنى الحصريّ. بلى، صدّر بولس أربعًا من رسائله، تسمّى "الرسائل الرعائيّة"، بأسماء محدّدة. كَتَبَ اثنتَيْن إلى تيموثاوس، وواحدةً إلى طيطس، وأخرى إلى فيلمُون. ولكنّ هذا لم يمنع علماء التفسير من التأكيد أنّ هذه الرسائل الأربع، وغير سِفر صُدّر باسم شخص (مثلاً: إنجيل لوقا وأعماله، ورسالة يوحنّا الثالثة)، وُجّهت كلُّها، عبر مَنْ أرسلت باسمه، إلى الجماعات التي استلمتها. هل هذا يعني أنّ عبارة الرسول إيّاها تُقصَد بها الجماعةُ كلُّها، أسقفًا وكهنةً وعوامّ؟ الكنيسة، كما رأينا في الخدمة، لم تعمِّم مضمون هذه العبارة، بل خصّته بالأسقف وحده. وهذا يوافق قصد بولس الذي قدّم، في ما نقلناه هنا، توصياتٍ خاصّةً بالمسؤولين في سياق رسالة عامّة. ولكنّنا، مطالبين بطاعة الحقّ، يجب أن نرى أنّ كلّ ما في العهد الجديد يعني، بمعنى من المعاني، كلّ مؤمن يعنيه خلاصه. هذا، في سياقنا، لا يراد منه اغتصابٌ لموقع الأسقف، حاشا!، بل أن نعرف، نحن أعضاء الجماعة، أنّ مِنْ صميم إيماننا أن نقرّ في أنّ الأسقف مكلَّفٌ أن يفسِّر الكلمة على وجه قويم، أي أن يشرحها على ضوء "تقليد الكنيسة وتعليم الآباء في مؤلّفاتهم" (مجمع ترولّو، القانون الـ19). وهذا، مسكوبًا علينا أيضًا، يلزم الأسقف، أمينًا على الكلمة ومعانيها المسلَّمة، أن يسلك وفق رنينها، أي أن يقرّ، هو أيضًا، في أنّ الكلمة، التي يبسطها، تنادي المؤمنين إلى أن يغدوا تلاميذ لله (يوحنّا 6: 45)، أي أن يصبحوا "جديرين بأن يعلّموا غيرهم" أيضًا (2: 2). "لقد حان الوقت الآن، لتصيروا للآخرين معلِّمين ومرشِدين. أمّا الصديق، فعليه أن يتبّنى تعليم أترابه وتثقيفهم، والخادم إخوته الخدّام، والأحداث أبناء جيلهم..."، يقول أسقفنا الأنطاكيّ يوحنّا الذهبيّ الفم (عظات على الأصنام، عظة رقم 16).
ثمّ، يلزمنا الرسول، إذا تابعنا قوله وفق انسيابه، أن نرى أنّ تفصيل الكلمة ليس مهمّةً كلاميّةً فحسب، بل يتعلّق، أيضًا، بالحياة في تفصيلها وتفاصيلها. فقوله لتلميذه: "اجتهد أن تكون في حضرة الله ذا فضيلة مجرّبة وعاملاً..."، قَبْلَ أن يُتبعه بـ: "مفصِّلاً كلمة الحقّ..."، يبيّن أنّ الحياة الصالحة شرط من شروط تبليغ الكلمة، أو هي، نوعًا من تبليغ، تحكم صحّته. بكلام واحد، يعرف بولس، ويريدنا جميعًا أن نعرف، أنّ الأسقف شأنه، في كلّ ما يعمله، أجل كلّ ما يعمله، أن يَظهر كما لو أنّه أيقونة رسمها الله بيده. بولس يعرف، ويريدنا أن نعرف، أنّ الناسَ لا يقودهم إلى برّ الالتزام مَنْ يعتبرهم صمًّا بكمًا وفاقدي البصر، بل مَنْ يحيا واعيًا أنّه "معروضٌ لنظر العالم والملائكة والناس" (1كورنثوس 4: 9). وهذا، الذي يكشف حقّ التعليم الكامل ويجعلنا جميعنا أمام الكلمة واحدًا، يتضمّن اعترافًا بليغًا بأنّ مَنْ كان إيمانهم "لا عوج فيه"، قوم يعرفون إن كان رئيسهم يقطع الكلمة على وجه مستقيم، أو يخبط فيها خبط عشواء. يعرفون إن من تعليمه أو من سلوكه. وإذا أردنا أن نزداد تعمّقًا في التماس الحقّ القائم في كلام بولس، فيجب أن نراه يشجّع تلميذه على أن يبقى، أبدًا، "ابنًا مخلصًا في الإيمان"، وتاليًا يشجّع المؤمنين على أن يتمثّلوا به. هدف الأيقونة أن تدعونا إلى عالمها الأبديّ. وفي سياق الرسالة، هذا يريد الرسول منه، إلى ما ذكرناه من تشجيع، أن يدحض تيموثاوسُ، بإخلاصه الظاهر، ظلمَ الذين "يزدادون في الكُفر تورّطًا، وكلامُهم يتفشّى مثل الآكِلة" (أنظر: 2: 16- 18). يريده أيقونةً ذهبيّةً تعرّي المنحرفين، وفي آنٍ تحفظ المؤمنين، وتجذبهم إلى نورها السنيّ. هل ما نقوله يؤهّلنا لأن نفترض أنّ الرسول يقصد أن تحيا الجماعة تراقب أسقفها؟ ولو أنّ هذا السؤال لا يستأهل أن نجيب عنه، يجب أن نعرف أنّ بولس لم يشجّع، مرّةً واحدةً، على أن يتربّص إنسانٌ بسواه، في الأزقّة وزوايا الشوارع، ليرى إن كان سلوكه يوافق تَضَلُّعَهُ من علوم الكلمة. فهذه رعونة قريبة جدًّا من سلوك إدانة، إن لم تكن أمّ الإدانة وأباها، ولا يمكن أن يُتّهم الرسول بها! كلّ هدفه، في ما نتبصّر فيه هنا وفي كلّ ما تركه لنا إرثًا مبرورًا، أن يعرفَ الربَّ كلُّ الذين "يعرفُ الربُّ أنّهم له"، و"يتجنّبوا الإثم" (2: 19)، ويسعوا، معًا، إلى أن يمدّوا شهادةً واحدةً، تجذب العالم إلى صدق الكلمة التي تستحقّ كلّ قبول (1تيموثاوس 4: 9).
ما من شهادة تخصّ فردًا في الجماعة من دون غيره. بلى، يمكن أن يحملها شخص واحد في حين يكون جميع الناس "قد دُمِّروا لعدم المعرفة" (هوشع 4: 6). لكنّ هذا ليس طموح بولس (أو طموح الكلمة). طموحه أن يبقى تيموثاوس، وَمَنْ يحيون معه، يدركون أنّ قوّة الشهادة تكمن في تضافر الذين يحبّونها على تبليغها حيّةً ومحيية. وهذا يؤكّده الرسول، في كلامه التابع، بقوله لتلميذه أيضًا: "اهرب من أهواء الشباب، واطلب البرّ والإيمان والمحبّة والسلام مع الذين يدعون الربّ بقلب طاهر" (2: 22). لا ينفصل هذا القول التابع عمّا أخذنا الكلام عليه أوّلاً. فـأن يفصِّل الأسقف كلمة الحقّ على وجه مستقيم، أمر يلزمه، إلى هروبه من كلّ هوًى رخيص، أن يطلب، في وقت مقبول وغير مقبول، التماسه الثبات في الفضيلة في حضن الإخوة الذين يلزمون الدعاء الطاهر. هل يتضمّن هذا القول الأخير إشارةً إلى أنّ استقامة التعليم تدعمها صلاة الجماعة؟ لا يشكّ عاقل في ذلك. أساسًا، إذا رجعنا إلى الخدمة الليتورجيّة، فنجد أنّ الكنيسة وضعت قولها عن الأسقف "مفصِّلاً كلمة الحقّ" في إطار الدعاء. إنّها تدعو له من أجل أن يذكره الربُّ بِكَرَمِ عطاءاتِهِ دائمًا، كُرمى له ولها. كلّ ما في الحياة الكنسيّة، كلّه كلّه، نعمة. فأنت، مسؤولاً عن تبليغ الكلمة، شأنك أن تثق بأمرَيْن ملزمَيْن. أوّلهما بأنّك تتكوّن بالنعمة دائمًا، ولا سيّما باندماجك في الذين تطهّر الأدعية قلوبهم. وتاليهما بأنّ الناس لا يتحوّلون إلى الحقّ بما تقوله أنت لهم، بل بنعمة الله عينها التي تستمطرها الأدعية الطاهرة، أدعيتك وأدعية الإخوة جميعًا. وهذا، الذي يذكّرنا بما قلناه عن أنّ كلاًّ منّا معنيّ بالكلمة (طاعةً ونقلاً)، يبيّن، ببلاغة لا تفوقها بلاغة، أن ليس أعلى من شركة الصلاة خدمةً لانتشار الكلمة على وجه مستقيم (أنظر مثلاً: رومية 15: 30؛ 2كورنثوس 1: 11).
الأسقف وجه إلى وجوه يجمعهم إنجيلٌ ينتصب في وسطهم. وهذا، الذي يحوي كلمة الله الجامعة والموحِّدة، يفصِّله، أوّلاً، رئيس يعرف أنّ الأقرب إلى الحقّ هو مَنْ كان الأوّل في الطاعةِ وعملِ الخير.