كان زكريّا ما زال أبكم يوم أتوا بابنه، ليختنوه في اليوم الثامن، ويعطوه اسمًا. الحاضرون أرادوا أن يطلقوا عليه اسم أبيه. فتكلّمت أمّه وقالت: "لا، بل يسمّى يوحنّا". قالوا لها: "ليس في عشيرتك مَنْ يدعى بهذا الاسم". وحتّى ينهوا الأمر، أشاروا إلى أبيه، ليسألوه ماذا يريد أن يسمّيه. فطلب لوحًا وكتب: "اسمه يوحنّا". فتعجّبوا كلّهم، فانفتح فمه لوقته، وانطلق لسانه، فتكلّم، وبارك الله (لوقا 1: 59- 64).
أمّا خبر إبكام زكريّا، فأورده لوقا في فاتحة إنجيله. وهذا مختصره أنّ زكريّا، الذي كان كاهنًا من فرقة أبيّا، قد أصابته القرعة، ليدخل مقدس الربّ، ويحرق البخور. وكانت جماعة الشعب كلّها تصلّي في خارجه عند إحراق البخور. فتراءى له ملاك الربّ قائمًا على يمين مذبح البخور، وأخبره بأنّ دعاءه قد سُمع، وستلد امرأته ابنًا. وأمره بأن يسمّيه يوحنّا. كان زكريّا وامرأته شيخين طاعنين في السنّ. فسأله زكريّا: "بِمَ أعرف هذا؟". فعرّف الملاك بنفسه، وقال له ستظلّ صامتًا إلى يوم يحدث ذلك (1: 5- 23).
لندخل، سريعًا، في حدث إطلاق اسم يوحنّا على هذا الطفل الذي نعيّد لميلاده اليوم.
أوّل ما نلاحظه، في هذا الحدث، هو وجود أناس عديدين (الجيران والأقارب) حول هذين الأبوين الشيخين اللذين رزقا طفلاً. الجوّ فرح، ويبدو حدث الولادة (أو إطلاق الاسم على الطفل) كما لو أنّه عيد من الأعياد الكبرى التي يحتفلون بها. هل سبب ذلك أنّ شيخين قد أنجبا؟ ربّما. أو: فلنجب: في الظاهر. أمّا في العمق، فلوقا، الذي يصوغ الخبر، يستبق أنّ هذا الطفل هو الذي سيهيّئ الطريق لمجيء الفرح الحقيقيّ والعيد الحقيقيّ (الربّ يسوع). ثمّ نلاحظ أنّ الحاضرين أرادوا جميعهم أن يسمّى الطفل على اسم أبيه، زكريّا. وهذا، تدخّلاً يستكمل حضورهم، يضيء على إرادتهم (أو رأيهم في ما جرى). فزكريّا اسم يعني: الربّ يتذكّر. يَظهر الحاضرون أنّهم يتحرّكون خارجيًّا. ما أرادوه، لا يبتعد عن أنّ شيخين قد أنجبا. هل اختيارهم اسم زكريّا يدلّ على إيمانهم بعجائب الله؟ ربّما. لكنّ أليصابات لم ترضَ أن يعطى الطفل اسم والده. وردّت: "بل يسمّى يوحنّا". فاعترضوا هم، وقالوا لها: "ليس في عشيرتك مَنْ يدعى بهذا الاسم". وهذا اعتراض يفسّر العادة السائدة في ذلك الزمان: كان كلّ طفل يولد يعطى اسمًا من عائلته. وحلاًّ للجدال، طلبوا تدخّل والده. أشاروا إليه. فطلب لوحًا (أي أشار هو إليهم، أيضًا، بأن يأتوه بلوح)، وكتب عليه الاسم الذي لفظته زوجته. كتب: "اسمه يوحنّا". هل هذه مصادفة أو معجزة؟ لا هذه ولا تلك. هذه طاعة، أي زكريّا وإليصابات (التي يعني اسمها: الله أقسم) أتيا من أمر الملاك الذي سُمع في الهيكل!
على إيقاع ذكر اسم يوحنّا، "انحلّت عقدة لسان أبيه". هذا يبيّن أنّ زكريّا لم يعاقبه الله بالبكم في الهيكل، بل أراد له أمرًا آخر، أمرًا جديدًا كلّيًّا. أراد له أن يشهد بكلام لم يكن له أن ينطقه من قَبْلُ، بكلام أقفل فمه إلى أن يحين موعده، بكلام نبويّ يخبر عن مشروع الله الجديد والمجدّد. فتكلّم، وبارك الله الذي سيسير أمامه يوحنّا، ليعدّ طريقه، ويعلّم شعبه الخلاص بغفران خطاياهم. واعتبرها: "تلك رحمة من حنان إلهنا / بها افتقدنا الشارق من العلى" (لوقا 1: 76- 78). هذا يضيء على طاعة أليصابات وزكريّا وإصرارهما على اسم يوحنّا الذي يعني: الله تحنّن. لقد رأى زكريّا، بما أنشده في احتفال ذلك اليوم المفرح، أنّ الله قد تذكّر حنانه على العالم كلّه. هذا يفوق، بما لا يقاس، ما أراده الجيران والأقارب الذين لم يسمعوا مثله ما قاله الملاك له، أي: "فسمِّهِ يوحنّا. وستلقى فرحًا وابتهاجًا، ويفرح بمولده أناس كثيرون. لأنّه سيكون عظيمًا أمام الربّ، ولن يشرب خمرًا ولا مسكرًا، ويمتلئ من الروح القدس وهو في بطن أمّه، ويردّ كثيرًا من بني إسرائيل إلى الربّ إلههم، ويسير أمامه بروح إيليّا وقوّته، ليعطف بقلوب الآباء على الأبناء، ويهدي العصاة إلى حكمة الأبرار، فيعدّ للربّ شعبًا متأهّبًا" (لوقا 1: 13- 17؛ قابل مع: ملاخي 3: 23 و24). فعطاء الله الجديد، الذي سيمهّد له يوحنّا (المعمدان)، سيهبنا إيّاه الله بابنه الوحيد الذي سيأتي من "مشارق العلى"، ليبحث عنّا جميعًا نحن الضائعين والحيارى والذين يفتقرون إلى حنانه.
كلّ شيء بدأ في الهيكل (وفق إنجيل لوقا). هذه بداءة تنهي زمانًا، وتفتح زمانًا جديدًا. تفتح زمان الله الذي كانت مشيئته، دائمًا، أن يكون شعبه هيكله (1كورنثوس 3: 16)، أي "محرابه" الذي كان ظلاًّ لسكناه الجديد (فينا). إعدادًا لهذا، كُوّن يوحنّا طفلاً في بطن عاقر، ليعلن زمان البداءة الجديدة. عندما يكبر، لن يشير إلى هيكل قديم. لن يدعو الناس إلى أن يتوبوا إلى مسكن صنعته أيدٍ بشريّة. فرسالته، التي سيتهيّأ لها "بإقامته في البراري" (لوقا 1: 80) التي هي صورةٌ عن العالم الذي سيتجدّد بمجيء المخلّص (أشعيا 32: 15، 35: 1-7؛ مزمور 107: 35)، مضمونها كلّها أن يشير إلى الربّ الذي سيهبنا الله فيه حنانًا ما بعده حنان، أي إلى الله الذي قرّر أن يقيم، كلّيًّا، في ابنه الآتي، وتاليًا، بنعمته، فينا أيضًا. لقد كان أبو يوحنّا وأمّه شيخين طاعنين في السنّ. هل هذه دلالة على البشريّة التي تنتظر أن يتجدّد شبابها؟ فالله، الذي أحيا قدرةَ هذا الشيخ ومستودعَ زوجته، قال فيهما ما أراده لنا. لم ينجبا طفلاً عاديًّا، بل "الصوت" الذي سينادي بافتقاد الله لنا، الله الذي قرّر أن يلغي كلّ خطيئة عجّزتنا، ويهبنا، بابنه، حياةً جديدةً، عهدًا جديدًا، يقول فيه: إنّني بتّ هنا، فيكم، لتستقوا من حناني شبابًا لا ينقضي، وتفرحوا أبدًا.