الأب إيليّا متري | Father Elia Mitri

استقامة التعليم

ثمّة قاعدة ثابتة لاستقامة التعليم، هي الكتب المقدّسة التي أوضح معانيها التراث القويم. وهذه القاعدة سببٌ لحرّيّة التعبير في عالم شأنه أن يحاكي مشيئة الله، لينقذ نفسه، ويسمو. والحرّيّة عطيّة من عطيّات الروح القدس الذي يقود الجماعة الكنسيّة، في كلّ جيل، إلى ما فيه خيرها وخلاصها. فنحن لا نعتقد بأنّ الروح، الذي أرشد المؤمنين في مسرى التاريخ إلى الحقّ، قد خفّ وحيه، في الحاضر، أو انقطع، بل إنّما هو الباقي المرشدَ إلى انقضاء الدهر. وهذا، الذي لا يعني أنّ أحدًا يقدر على أن يضيف شيئًا إلى "الإيمان الذي سلّم إلى القدّيسين تامًّا" (يهوذا 3)، لا يعني، أيضًا، أنّ الإيمان التامّ لا يقبل، في سياق توضيحه، عبارات، أو صورًا كلاميّةً جديدة. فالإيمان حيّ. وعمل الروح، في كلّ جيل، أن يوضحه بما يناسب خلاص جميع الناس.

من المؤكّد أنّ تراثنا، الذي يأبى كلّ جمود وبعثرة، يفترض إعمالاً للعقل المستقرّ في القلب، في سبيل قبول غنى الإيمان غير المحدود. ولربّما يكون أعلى ما نفسّر فيه إيماننا بأنّ بعض تراثنا نتناقله شفويًّا، هو حيويّة هذا التراث عينه وقدرته على الإحياء. فتراثنا حيّ. ومن التزم ضوابطه، ولا سيّما حدوده المسطّرة في المجامع المسكونيّة، يمكنه أن يقول ما يشاء، أي أن يعبّر عن الإيمان بما يراه يعبّد درب الخلاص لمن يعايشهم، ويعايشونه.

هذا الكلام الطبيعيّ قد يعتبره بعض المؤمنين، ولا سيّما "العارفين" منهم، جريئًا، أو يرون، فيه، تطاولاً على المسلّمات! فليس الجميع، في الواقع، يقرّون، اليوم، بحيويّة التراث. وتراهم، عن قصد أو عن غير قصد، يصرّون على حصره بتحديدات لغويّة، أو مفردات كلاميّة. يحيون في الماضي، ولا يجيئون منه. وتتحكّم فيهم الصراعات، التي دارت في التاريخ، والتي كان أحد عواملها المباشرة تنوّع الثقافات، أو اللغات. لا يفهم بعضنا أنّ شأن اللغة أن تخدم الإيمان، وأنّ العكس ليس صحيحًا بتاتًا. يتطاولون على حرّيّة الروح، ويشوّهون "تدبير الله"، الذي تمّ "من أجل خلاص العالم". وحجّتهم أنّ المفردات الكلاميّة، التي وصلت إلينا، أهمّ من مضمون الإيمان عينه! لست بقائل إنّ التحديدات الإيمانيّة، التي تناقلناها جيلاً فجيلاً، قابلة للنقاش، أو للتبديل، أو يمكن أن تقوم كنيسة من دونها. لكنّي لست بقائل، أيضًا، إنّها لا تقبل صورًا كلاميّةً جديدة. بعضنا، للأسف، يقدّسون اللغة!، ومن حيث يدرون أو لا يدرون، يصنّمونها. وهذا سببه الظاهر أنّهم لا يعرفون أن يميّزوا بين المهمّ والأهمّ. وما من أمرٍ أهمّ من إرادة الله الثابتة التي بيّنها الوحي، وأعني قداسة العالم (1تسالونيكي 4: 3).

آباء المجمع المسكونيّ الرابع المجتمعين في خلقيدونية

ثمّ يأتيك من يدّعي أنّه يحتكم، في أقواله وتصرّفاته، إلى آباء الكنيسة. وآباؤنا أبرياء ممّن يرفضون كلّ توثّب فكريّ راضٍ. صحيح أنّ آباءنا كانوا يحتكمون، في دفاعهم عن الحقّ، إلى "قانون الإيمان". ولكنّ الصحيح، أيضًا، أنّهم لم يعتبروا أنّ كلّ كلام يخدم توضيح الإيمان هو بدعة ممجوجة. لقد كان آباؤنا علماء حقًّا. معظمهم لم يأنف من دراسة علوم الدنيا، وتعميد مصطلحاتها المناسبة، وتطويعها لخدمة الإيمان. والأمثلة على ذلك كثيرة. ولربّما خير مثال، هو أنّ آباء المجمع المسكونيّ الأوّل، المنعقد في نيقية العام الـ325، قد استعملوا تعبير "هومووسيوس"، أي "المساوي للآب في الجوهر"، في ردّهم على بدعة آريوس. وذلك رغم علمهم أنّ هذا التعبير يعني، في العالم اليونانيّ، "الكيان الواحد"، وأنّ الأفلاطونيّة الحديثة والغنوصيّة، استعملتاه، في القرن الثالث، للدلالة على "الكائن العاقل"، أو "الشخص". هذه القدرة تبيّن الحرّيّة الكبرى التي كان آباؤنا يتمتّعون بها. ولا أظنّ أنّ أحدًا مستقيمًا يمكنه أن ينسب إليهم أنّهم، باستعمالهم مفردات من العالم، أهملوا التراث المكتوب، أو زادوا عليه. فهم كانوا يعرفون إرادة الله. وجلّ همّهم كان أن يخدموا تدبيره. والثابت أنّ خير قناعة لازمتهم أنّهم لم يعتقدوا أنّ التراث المكتوب هو حروف فحسب، بل شخص المسيح الإله الحيّ. وهذا ما أكّده القدّيس أغناطيوس الأنطاكيّ (+107)، بقوله: "أضرع إليكم أن تبتعدوا عن كلّ روح يعمل للشقاقات، وأن تفعلوا وفقًا لتعليم الله. سمعت من يقول: "إذا لم أجد ذلك عند الأقدمين، لا أومن بالإنجيل"، وعندما أقول لهم إنّ ذلك "مكتوب"، يجيبونني: "هذا هو الموضوع". المخطوطات بالنسبة إليّ هو يسوع المسيح، المخطوطات هي صليبه وموته وقيامته والإيمان الذي من عنده" (الرسالة إلى أهل فيلادلفيا 8: 2).

ما من نهج يقدر على أن ينقذنا من الشطط، ويحرّرنا من تعقيد الجمود الحرفيّ، ويبلغ بنا إلى الاستقامة المنجّية، مثل النهج الذي انتهجه آباؤنا. ولذلك كلّ من يدّعي أنّه يحتكم إلى الآباء، من الواجب أن يعرف أنّ الاحتكام إلى الآباء أمرٌ، وادّعاء الاحتكام إليهم أمرٌ آخر. مَنْ يحتكم إلى الآباء، يُفترض به أن يتبنّى إخلاصهم وحكمتهم، ليس في حفظهم تحديدات التراث فحسب، بل في وعيهم الثابت أنّ لله إشعاعاته في الدنيا، ولا سيّما في أحبّائه المتمرّسين بحيويّة فكره. ولربّما أكثر ما يبعد بعضنا، اليوم، عن نهج الآباء هو اكتفاؤهم بأنفسهم. يسهل على بعضٍ أن يخطّئوا مَنْ لا يفهم كما هم يفهمون، ويتكلّم كما هم يتكلّمون. وحجّتهم الدائمة هي الاحتكام إلى الآباء!

لا نريد أن ندين أحدًا. لكنّ أمورًا مؤسفة كثيرة تحدونا على القول إنّ ثمّة مَنْ يريد الآخرين صورة طبق الأصل عنه. وهذا إلغاء معيب لا يوافق حقّ الكنيسة التي أرادها ربّها دائمًا واحدة في تنوّع مواهب أعضائها. وليس من أمر يشوّه كنيسة الله، ويدمي الفؤاد، أكثر من أن يعادي الإنسانَ "أهلُ بيته"، ولا هرطقة أفتك من اختزال المواهب، ولا خطر على الإيمان أعلى من ازدراء ما يبثّه الروح في حاضر الكنيسة.

من الواجب أن نبسط العقيدة القويمة، وندافع عنها، "في وقت مقبول وغير مقبول". ولكنّ هذا يفترض، دائمًا، أن نتبنّى الحكمة التي زيّنت آباءنا، وجعلتهم قادرين على أن "يختبروا كلّ شيء، ويتمسّكوا بالحسن". هذا، وحده، يبعدنا عن إخماد الروح، وينقذنا من "كلّ نوع للشرّ" (1تيموثاوس 5: 19- 21)، ويقيمنا شهودًا أحرارًا للحقّ في عالم دعوته الدائمة أن يحاكي إرادة الله الحيّ.

- مجلّة النّور، العدد الثامن، ٢٠٠٥
شارك!
Exit mobile version