"لا خلاص خارج الاجتماع الإفخاريستيّ"
(الأب نيقولا (أفاناسييف)، مائدة الربّ، صفحة 119)
مِنْ الألفاظ، التي أطلقها المسيحيّون على سرّ الإفخارستيّا، أي القدّاس الإلهيّ، لفظة "الاجتماع" (عبرانيّين 10: 25). وهذه اللفظة تدلّ على أنّ لقاء المؤمنين بالربّ إنّما هو تلبية لدعوته إيّاهم إلى أن يتخلّصوا من كلّ عيب جارح وبعثرة قاتلة بقبولهم حياته المنقذة ومحبّته الجامعة.
لا يعوزنا أيّ جهد، لنؤكّد أنّ المسيحيّين الأوائل كانوا يقيمون اجتماعهم، أسبوعيًّا، يوم الأحد، اليوم الذي قام فيه الربّ من الموت، ووهب العالمين الحياة. وكان هذا اليوم، عندهم، هو "عيد الأعياد وموسم المواسم". ثمّ أحبّوا أن يمدّوا هذا اللقاء، فوزّعوه أعيادًا، منها ما يختصّ بتدبير الله الخلاصيّ، ومنها بِمَنْ أخلصوا له الودّ في غير جيل. فيوم الأحد هو الذي نادى الأيّام الأخرى إلى اجتماع الفرح.
إنّه الاجتماع، إذًا. وهذا الاجتماع يتمّ مرّةً واحدةً، أي لا يُعَدّ ولا يتكرَّر، بل يؤكّد فيه المؤمنون التزامهم حياةَ الجدّة في المسيح، كلّ مرّة، كما أوّل مرّة. ولكونه لا يُعَدّ ولا يتكرَّر، لا يتغيّب أيّ عضو عنه من دون عذر ممدوح. فمثلاً، كان المسيحيّون الأوائل، إن غاب مؤمن عن اجتماعه ثلاث مرّات متتالية من دون عذر، يعتبرونه قد فصل نفسه، بإرادته، عن شركة كنيسته. وكانوا لا يعيدونه إليها قَبْلَ أن يتأكّدوا من أنّه تاب حقًّا. وهذا الالتزام الجدّيّ كانوا ينتظرونه حتّى في أزمنة الاضطهاد المريرة، أي حتّى لو كلّف الإنسان أن يقدّم حياته في سبيله. هذا لا يعني أنّهم كانوا يشجّعون بعضهم بعضًا على الانتحار، مثلاً. حاشا! فإنّ همّهم كلّه كان أن يحيوا جميعهم الحياة الحقّ، ويتشبّهوا بذاك الرجل "الذي وجد كنزًا كان قد دُفن في حقل، فأعاد دفنه. ثمّ مضى، لشدّة فرحه، وباع جميع ما يملك، واشترى ذلك الحقل" (متّى 13: 44).
معنى ذلك أنّ اجتماع الكنيسة مسؤوليّة كلّ عضو من أعضائها، كاهنًا كان أو عامّيًّا، رجلاً أو امرأة، كبيرًا أو صغيرًا، متعلّمًا أو أمّيًّا، غنيًّا أو فقيرًا. ليس بمعنى أنّه مسؤوليّة تنتهي متطلّباتها باكتفاء المؤمن شخصيًّا بالتزام اجتماع العبادة فحسب، بل، أيضًا، تحثّه على أن يدعو سواه إلى مشاركته في التزامه عينه. وهذا تؤكّده الخدمة ذاتها التي تكلّفنا، في خروجنا منها، أن نزرع الأرض بالسلام (لنخرج بسلام)، أي بالمسيح ربّنا (أفسس 2: 14). الاجتماع، الذي يجمعنا إلى الله في خدمة الأبد، يحدّد دورنا وخدمتنا في العالم أيضًا. فنحن قوم لا نميّز، البتّةَ، بين التزامنا العبادة وعملنا في الأرض. ليس، عندنا، شأن روحيّ مفصولاً عمّا يسمّى شأنًا مادّيًّا. فالمسيح، الذي نعبده، هو، كما يقول الأب ألكسندر (شميمن)، "إفخارستيّا العالم" (أنظر: "من أجل حياة العالم"، صفحة 55). وهذا، الذي يبيّن أنّ يسوع هو "الإنسان الكامل الذي يقف أمام الله"، يبيّن، تاليًا، أنّ دور أتباعه، في أيّ جانب من جوانب حياتهم، أن يخدموا حياة المؤمنين التي مات ربّهم، ليجمعهم إليه وبعضهم إلى بعض. فالمؤمن، في حياته الكنسيّة والدراسيّة والاجتماعيّة والمهنيّة والعائليّة والوطنيّة، إنّما هو أداة جمع. إنّه يتعاطى أموره على ضوء مشاركته في اجتماع المؤمنين. أليس من أجل هذا كانت الكنيسة تفصل عن شركتها، إلى الذين يصيبهم داء الكسل، كلّ مَنْ يرتكب خطيئةً قاتلةً في الأرض؟ فالخطيئة، في مفهوم كنيستنا، ليست اصطلاحًا أخلاقيًّا، بل هي اصطلاح لاهوتيّ من معاييره أن يتجاوز المؤمن خدمته الأساس، أي جمع أترابه إلى الله، ليحيوا به وله وفيه.
ذكرنا، أعلاه، أنّ اجتماع الأحد كان عيد الجماعة الكنسيّة الأولى. وكلّنا يعرف أنّ مؤمنين كثيرين يشغلهم، اليوم، التزام أعياد الكنيسة الكبرى فحسب. معظمهم، على الإطلاق، عادوا لا يعيرون عيد يوم الأحد أيّ أهمّيّة. لن نبحث عَمَّنْ هو المسؤول عن هذا الانحراف. وحسبي، من دون أن ننكر روعة التزام أعيادنا طرًّا، أنّ كلّ مَنْ يعامل عيدًا معاملةً تبديه مختلفًا عن أصله، أي يوم الأحد، هو مسؤول عن نشر هذا الانحراف. ولسنا نعتقد، إلاّ إذا عزّزنا الرجاء، أنّ سطورًا سريعةً قادرةٌ على أن تغيّر ما قد يبدو أنّ تغييره صعب، إن لم يكن مستحيلاً! فالظاهر جليًّا أنّ الذين لا يكترثون بعيدنا الأسبوعيّ بات معظمهم لا يرون عيبًا في تخلّفهم عنه. وتراهم يبرّرون تخلّفهم بفظاظة جارحة. يبرّرونه بالعمل وخدمة المنزل والدرس وغيرها، كما لو أنّ هذه أمورٌ لم يعرفها الإنسان يومًا. هل، بما أقوله هنا، أوحي بأنّ الحلّ ممكن إن استرجعت الكنيسة ما كانت تفعله مع الغائب من دون عذر مثلاً؟ ليس عندي جواب عن هذا السؤال. ما عندي أنّ الكثيرين بيننا يحتاجون إلى أن يتعلّموا حقّ ما يهملونه عن دراية أو غير دراية. هذا ليس هروبًا من جواب، ولا تزكيةً لجهل مخجل، بل دعوة إلى كلّ واعٍ، يعنيه مدّ خلاص الله في العالم، أن يحارب العيب حيث هو فتّاك. فبهذا الملزِم نبيّن أنّنا نعلم ما ينتظره الله منّا، وفي آنٍ بأنّ الحكم له وحده.
لمّا أطلقت الكنيسة على لقاء المؤمنين لفظة اجتماع، رسمت سبيل حياتنا الجديدة. نحن، اليوم، أمام مفترق لا يحدّد مصيرنا وحدنا، بل مصير أولادنا وكلّ الذين هم معنا وإلينا والذين سيأتون بعدنا. فإن فهمنا أنّنا مسؤولون عن الشهادة لله في الأرض حقًّا، فهذا يجب أن ندلّ عليه، دائمًا، بالتزامنا اجتماعَ كنيسةٍ دفعها الله إلى العالم، لتجمع الكون إليه.