الأب إيليّا متري | Father Elia Mitri

إغناطيوس الرابع

لم يتسنَّ لي أن أعرف، عن قرب، غبطة المثلّث الرحمة البطريرك إغناطيوس الرابع. رأيته، مرّاتٍ عدّةً لا تتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة، في سياق اجتماعات عقدتها الأمانة العامّة في حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة (في دمشق)، وبعض لقاءات كنسيّة أخرى إن في لبنان أو في سورية. هذا لا يعني أنّ الناس، ليكونوا أقرباء، يعوزهم، دائمًا، أن يحيوا متجاورين متلاصقين. ثمّة قربى، من نوع آخر، يعرفها الذين يؤمنون بأنّ الله، الذي قاربنا في مسيحه، جعلنا، بنعمته، رعيّته وأهل بيته (أفسس 2: 19). وهذه قربى عزّزها، في نفسي، بعضُ إخوة كانوا، متى أتى أحدهم بأمرٍ يذكّر بغبطته، يطلع من وجوههم فرحٌ بليغٌ يدلّ على أنّ للرجل مكانةً عظمى في قلوب ذاقت من خيرٍ، هبط عليه من فوق، ما لا يُنسى.

إن كانت الكتابة مستحيلةً من دون حبر، فحبري الأساس هو، إذًا، هؤلاء الإخوة البليغون.

لا أكشف أمرًا لا يحقّ لي ذكره إن أخبرت أنّ بعض إخوتي يعرفون أنّ هذه السطور، التي أثارتني إلى خطّها دوافع انحجاب غبطته، ليست هي السطور الأولى التي أضعها عنه. فهم أنفسُهم أمسكوا بيدي، وقادوني إلى أنوار منه، أدخلتها في كتابٍ صدر من قَبْل. وإن كان ثمّة من فارق بين تلك السطور التي صدرت وهذه التي أخطّها الآن، فهو أنّ الأولى تكلّمت على وجوه لم تذكر أسماءهم. هناك، على تلك الصفحات، كانت الأسماء أنوار إخوة حفظوا وصيّة الربّ الذي دعاهم إلى أن "يضيئوا لجميع الذين في البيت"!

كان على مَن قرأوا تلك السطور أن يروا الإخوة فيما كانوا يروون ما أرادوني، بفرح وشكر، أن أدوّنه. كانوا مشهدًا لا يفوَّت، مشهدًا يشبه ذاته، يشبههم! كانوا، "سكارى"، يؤكّدون أنّ الله باقٍ يتكلّم. يتكلّم، ويفعل. هل أشيد بإخوتي؟ على أنّني لا شيء من دونهم، أجيب: بل بالله الذي يصرّ على أن يرينا العالين في جماعته لا قناعة لهم سوى أنّ "هذا العالم لا يكفي". كيف يطلع النور من الوجه؟! كيف لبعضنا أن يُتقنوا علمًا أنّ النور يسطع كلّما غارت وجوههم في الأرض؟! أجل الفقر، هوى الفقر، أن يبقى الهوى، أن يُرى مجد العالم هباء تذوره الريح، هذا، الذي كان الإخوة يردّدونه، هو هو، كلمة الله المجدّدة!

هذا أكّد لي أنّ غبطته كان قريبًا مِمَّن عرفهم في حياته، قريبًا جدًّا. أساسًا، لست وحدي، بل إنّ آخرين كثيرين سمعوا، مِمَّن مرّوا عليه في بعض المؤسّسات الكنسيّة التي عمل فيها وعليها (مثلاً، "كلّيّة البشارة" في أبرشيّة بيروت)، افتتانهم بأنّه، على عدم رؤيته إيّاهم سنواتٍ طويلة، لم يمنعه ما كتبه الزمان على وجوههم من أن يعرفهم توًّا. معظمهم، بل كلّهم أعادوا هذه المعرفة إلى ذكاء فيه شديد. ومن دون أن أخفّف ذكر ذكاء أُشيد به في خدمة وداعه في بيروت وفي دمشق، يعجبني أن يُعتبر هذا هبةً من هبات التمثّل براعي نفوسنا وأسقفها (يوحنّا 10: 14). وإذا أدركت أنّ بعض الذين يروون هذا الافتتان، التزامهم الكنسيّ ليس نارًا على نار!، يمكنني أن أضيف، من دون أن أدين أحدًا منهم، على قاعدة أنّ الذين جرحوا بحبّ الله يصعب شفاؤهم، أنّه، اقتداءً بمعلّمه أيضًا، لم يكن يحابي. معظم الناس يحسبون أنّ مَن يكلّفون مسؤوليّاتٍ عاليةً في الجماعة الكنسيّة لا يمكن أن يُحبّوا سوى الذين يلمعون مثل الشمس. وهذا ليس خطأً فقط، بل خطيئة، خطيئة قاتلة أيضًا. إن كنّا، نحن الذين نردّد الفكر المنوَّر، علمنا أنّ الربّ كان يتعاطى الإنسان على ما يمكن أن يكون لا على ما هو عليه، فكيف بالذين أسهموا في إخصاب أرضنا بمصالحة النور؟ فأسقف أنطاكية، إغناطيوس الرابع، واحد من الذين حضّوا أرضنا على ذكر أنّ لله الكلمةَ الفصل فينا، وأنّ المحبّة، التي تعرف متى تشدّ ومتى تلين، هي هي، التي تصنع "كلّ شيء جديدًا"!

أمّا أغلى ما يندّي القلب، فهو أنّ الإخوة، جماعة "النهضة" في دمشق، كانوا يثقون بأنّ غبطته يخصّهم بودّه. لقد سمعتهم، مرّاتٍ عديدة، يشهدون بأنّه كان كتفًا لهم، فرحوا أو بكوا. وهذا، على كونه أمرًا أبويًّا، أي طبيعيًّا، لا يمكنني، في هذه الأيّام الصعبة، الصعبة الصعبة فعلاً، أن أصغي إليه بأذن (أو فم أو يد) حياديّة! ليس لي أن أذكر نفسي. لكن، لا بأس إن اعترفت، جهارًا، بأنّ ما من إنسان يقدر على أن يدخل قلبي أسرع مِمَّن يحبّ اللهَ في الناس، أيًّا كانوا، ولا سيّما الذين أخذتهم نهضة كنيستهم؟ أن تحبّ، أسقفًا أو كاهنًا (أو أيًّا كنت)، أشخاصًا يأتون، معظمهم أو بعضهم، من أنّ المسيح قام، لهو أن تحبّ أن يبقى القبر، كلّ قبر، فارغًا! هذا هو مدى الوعي الذي يدلّ على الإيمان بِنِعَم الله. هل هذا يعني أنّ غبطته كان يوافق الإخوة، في دمشق، على كلّ شيء؟ هذا لا يبقى مهمًّا إن علمنا أنّ شأن الأسقف، أيّ أسقف، أن يأتي من إعلان المحبّة إلى الرعاية. هذا هو طريق الخدمة الوحيد. فالخدمة، كلّها كلّها، تبدأ بالمحبّة، فتبدو الرعاية صداها. ألم يقل الربّ لتلميذه بطرس ثلاثًا: "أتحبّني... إرعَ حملاني" (يوحنّا 21: 15- 17)؟ وهذا ما شُهد لغبطته أنّه انتهجه فيما كان جالسًا على كرسيّ بطرس وذاك الرسول الآخر الذي أتى من طرسوس. هل وصل إلى غبطته أنّه يبالغ في حبّه للإخوة؟ هل سمع مثل هذه البربرة؟ سؤال أعرج، بل مفلوج إن فهمنا أنّ الذين ينتقدون المسؤولين، الذين يبالغون في إظهار المودّة للإخوة، يكونون، عمومًا من حيث لا يدرون، بوق التفاهة! وهل ثمّة مَن كان أقدر من غبطته، رحمه الله، على صدّ التفاهة؟

هذه بعض أنوار لملمتها من بستان المحبّة الفذّة التي لا تموت، بل تحيا أبدًا، لنحيا منها أبدًا.

- مجلّة النّور، العدد الأوّل، ٢٠١٣
شارك!
Exit mobile version