سأحاول، في سطور، أن أرى إلى إصلاح أقربائنا بالجسد. وهذا لا أريد منه تبرير إهمال سواهم، بل أن أطلّ على شأن من شؤون إيماننا الذي من جوهره أن نتعاطى جميعنا كلّ خدمة مصلِحة.
يشعرك بعض المؤمنين بأنّ سلامة علاقتهم بأقربائهم لا تحتمل، إن أخطأ أحدهم، أن توجّه إليه كلمة مصلِحة، أي، وفق منطقهم، كلمة قاسية. فهذا، عندهم، يخالف المحبّة التي يحصرونها بالعضّ على الجرح، وما يفترضه من تجاوز لنقائص ظاهرة. ولست أقول هذا على مستوى الالتزام الكنسيّ فحسب، أي، مثلاً، إن غاب مَن يشاركني في حياة واحدة عن الخدمة الإلهيّة كسلاً. فهناك كثيرون يغيبون عن القدّاس الإلهيّ من دون أن يقول لهم أحد شيئًا. لا، بل تسمع بعض مَن يخصّونهم يبرّرون، أحيانًا، غيابهم بحجج تقنعهم. لكنّني أقوله على غير مستوى. فمن المؤمنين مَن تراهم لا يحرّكهم أن يستغلّهم أيّ قريب لهم. خطأ القريب لا يريدون أن يروه فرصةً للتذكير بالحقّ المربّي. وإن طُلب منهم أن يوافقوا إيمانهم في مواقف ضروريّة، يعيبهم ألاّ يبدو رأيًا فيها، تراهم، أيضًا، لا يعيرون الطلب أيّ أهمّيّة.
حتّى لا أبدو أتكلّم في العموميّات، أرى من الأفضل أن أوضح ما أريده بمثلَيْن.
ثمّة رجل مسيحيّ، يملك مؤسّسةً تجاريّة، له ابنُ أخٍ يعمل معه. هذا الابن تعوّد أن يمدّ يده على مال لا يحقّ له به، أي أن يسرق عمّه. بعد مدّة، شعر العمّ بأنّ دخل مؤسّسته يتراجع. وأعطته المصادفة أن يدرك ما يجري. فَهِمَ، وبقي صامتًا. ودارت الأيّام، واضطرّ الرجل إلى أن يستدين من أحد المصارف، ليغطّي عجز مؤسّسته. وقوي دينه عليه. وأفلس. وانتهى موظّفًا في مؤسّسة أخرى. وأمّا اللصّ، فتمتّع بما اختلسه. اشترى منزلاً، وفرشه بأثاث جديد، وفتح عملاً مخصوصًا به. مَن أخبرني هذه القصّة، كان صديقًا للمسروق. وقال لي إنّه حاول أن يحضّ صديقه، لمّا أخبره بأنّه اكتشف ما فعله ابن أخيه، على أن يتصرّف، أن يخبر أخاه، أن يطرده من مؤسّسته... ولكنّ الرجل كان كما لو أنّه أصمّ أبكم. بلى، كلّنا يمكننا أن نفهم طراوة قلب المسروق الذي يحاكي موقفه موقف أبرار كان كلّ ما يعنيهم أن يُحِبّوا. لكنّ ما يُصعب قبوله أن يتجاوز مسيحيّ أن يحاول إصلاح مَن يجب أن يعنيه إصلاحه أوّلاً. فالرجل لم يفعل. بلى، فعل شيئًا: لم يحرّك ساكنًا. إنّني لا أقول: كان على الرجل أن يقاضي ابن أخيه أمام المحاكم المدنيّة، بل أن يواجهه. لا يكفينا، مسيحيًّا، أن نغضّ الطرف عمَّن يستغلّنا من دون أن نوضح له، على الأقلّ، أنّنا لسنا أغبياء! لا يكفي أن نخمّن أنّه يعرف. هذا من مقتضى أنّنا نحبّه. فأن أحبّ أخي أو أمّي وأبي، أمر لا يعني أن أتجاوز خطايا مَن يخطئ منهم. أن أحبّهم، يعني أن أحبّ أن يتبرّروا بالحقّ دائمًا. ماذا ينفعني إن ربحوا العالم، وخسروا أنفسهم؟ أنا موجود. إذًا، أنا مسؤول عن خلاصهم، لا سيّما حيث يثبت تجاوزهم. هذا لا علاقة له بمحبّة المال، أو أيّ محبّة فانية أخرى، بل، كما ظاهر، بخلاص الله.
مثل آخر: مرض فتًى وحيد لأبويه. ولزم المستشفى نحو عشرين يومًا. وكان وضعه، في البدء، غايةً في الحرج. في فترة مرضه كلّها، لم يزره عمّه، في المستشفى، مرّةً واحدة. اكتفى بأن يطمئنّ إلى صحّته هاتفيًّا فقط. انزعج أبوه كثيرًا. ولكنّ أمّه أبت عليه أن يفصح له عمّا أزعجه. وانصاع لها.
لن أعلّق على هذا المثل الذي أعرف أشخاصه واحدًا واحدًا. فهذا، وإن يختلف عن المثل الأوّل بإمكان شيوعه، إلاّ أنّ ما قلناه تعليقًا على ذاك يمكن أن يوافق هذا أيضًا. أمر وحيد أودّ ذكره، وهو أنّ أمّ الفتى من ملكاتها أنّها تبذل نفسها في خدمة الكلّ، ولا سيّما أقرباء أهل بيتها. لا أريد، بهذا الذكر، أنّ مَن أهمل زيارة ابنها في المستشفى (عمّه) كان عليه أن يردّ خدمته إيّاها بمثلها، فالمحبّة مسيحيًّا لا تنتظر مبادلة، بل أن يرتقي إلى التزام (أو أن يذكّره أحد بـ) حقّ القائل: "كنت مريضًا، فعدتموني" (متّى 25: 36)!
هل هي دعوة إلى ثورة على أقربائنا؟ بل دعوة إلى تذكير كلّ مَن يحبّ خلاص الله بأنّ المسيحيّة، حبًّا بالحقّ العالي، لا تقبل سكوتًا على الخطأ. هذا نفّذه يسوع مع الناس جميعًا، ومنهم أقرباء له بالجسد: أمّه، المسمَّون إخوته، تلاميذه. يكفي أن نذكر أنّ أمّه وإخوته أتوا إليه مرّةً فيما كان يعلّم في بيت، وطلبوا أن يعيدوه إلى البيت. وردّهم بقوله إنّ "أمّي وإخوتي هم الذين يسمعون كلمة الله، ويعملون بها" (لوقا 8: 21). ثمّ فلنذكر أنّ يسوع، لمّا انتهره بطرسُ تلميذُهُ على قول لم يستسغه، نعته: بالشيطان (مرقس 8: 31- 33). وهذه المحبّة المصلحة شأننا إن كنّا نعتقد فعلاً أنّ الحقّ عالٍ، أي فوق الجميع. أعلم أنّنا لا نستطيع أن نعامل الناس معاملةً واحدة. فلكلّ إنسان قدرته على قبول المقاربة! هذا واجب من موجبات الحكمة. لكنّنا كلّنا، في آن، مدعوّون إلى أن نُخرج أنفسنا من تصنيم المحبّة بحدّها في شكلّ دون آخر. التنبيه أو التذكير بالحقّ (الذي قد يبدو قاسيًا) من أشكال المحبّة. فنحن، مسيحيًّا، لا نقدر على أن نتعاطى مع الخطأ الحقيقيّ الظاهر كما لو أنّه غير ظاهر. هذا ضدّ إصلاح الآخرين، أي ضدّ محبّتهم.
هذا العالم، الذي نحيا فيه، إن أردنا أن نرضي الله حقًّا، لا يمكننا أن نرتّب أمورنا فيه كيفما كان. شيء من الجرأة يفترض إصلاح القريب. قيمة قرابتي، لأيٍّ كان، أن أغدو ضميره حيث أراه نائمًا أو زائغًا. كلّ همّي يجب أن يكون خلاصه. فما نفع حياتي إن لم أخدم إصلاحه، لأرجو أن نخلص هو وأنا؟
(نشر المقال في نشرة "رعيّتي" التي تصدرها مطرانيّة جبيل والبترون (جبل لبنان) )