الأب إيليّا متري | Father Elia Mitri

إخوة يسوع

            لن نعالج، هنا، ما يقوله أهل بعض الفرق المسيحيّة، أو البدع المنحرفة، عن أنّ ليسوع إخوة من مريم أمّه وخطيبها يوسف. فهذا، أساسًا، يخالف الحقيقة التي كشفها العهد الجديد، وعاش، ببركاتها، أبرار التاريخ. وهذه المخالفة، ببساطة كلّيّة، تشوّه معنى تنازل يسوع الذي شاء، بنعمته، أن يتبنّانا جميعًا لأبيه. ولكنّنا سنحصر أنفسنا بالكلام على معنى هذا التنازل والبنوّة الحقيقيّين اللذين خصّ يسوع بهما، في كلّ جيل، جميع الذين آمنوا به ربًّا ومخلّصًا.

            ما يعرفه المسيحيّون الحقيقيّون أنّ يسوع شاء، بتنازله، أن يأخذ جسدنا، ما خلا الخطيئة، ليخلّصنا من بعدنا وموتنا، ويكشف لنا أنّ أباه هو أبونا جميعًا، وأنّنا كلّنا، بنعمته، إخوة، إخوته. هذا ما قاله ربّنا، حرفيًّا، للجموع الذين كانوا يتبعونه ولتلاميذه: "أنتم جميعًا إخوة" (متّى 23: 8). وهذا ما طبّقه كاتب الرسالة إلى العبرانيّين على يسوع وكنيسته، بقوله: "ولذلك لا يستحي أن يدعوهم إخوة حيث يقول: سأبشّر باسمك إخوتي..." (2: 11 و12؛ راجع: مزمور 22: 23). واستكمالاً للكشف علّم يسوع أتباعه أن يدعوا أباه، وينادوه، بدالّة الأطفال، "أبانا" (متّى 6: 9). وأعطاهم روحه القدّوس، ليمكّنهم من أن يألفوا الآب "أبّا"، ويرثوا "بفضل الله" (غلاطية 4: 6 و7).

            هذا جديد يسوع الذي لا يشبهه، أو يوازيه، أيّ كشف قديم. فبتنازله لم يقف يسوع عند حدود النظرة اليهوديّة القديمة التي ما كانت تعتبر الله، إلاّ نادرًا، أبًا، والتي ما كانت تقبل أن يخاطبه الناس بدالّة، لما في هذا الاعتبار أو التدلّل من إساءة إلى تعاليه وتساميه. لكنّه تخطّاها بحثّه المؤمنين على اعتبار الله أباهم الحقيقيّ، وبدعوته إيّاهم إلى التقرّب منه دائمًا. وبتنازله لم يقبل، تاليًا، أن تُحصر القرابة بين الناس باللحم والدم أو الانتساب إلى القبيلة الواحدة...، لكنّه صوّبها بتحريرها من كلّ انغلاق وتقوقع، وبفتحها على الناس جميعًا. فبما أنّنا جميعًا أبناء الله، فهذا إنّما يعني أنّنا جميعًا إخوة وأقرباء بعضنا لبعض.

            ما يلفت كثيرًا أنّ هذه القرابة الجديدة (أي أنّ الناس جميعًا أخوة بعضهم لبعض) يردّدها محرّرو العهد الجديد، مرارًا وتكرارًا، بواقعيّة وفخر كبيرين. فتكاد، قارئًا، لا تجد إصحاحًا واحدًا، بخاصّة في كتاب أعمال الرسل والرسائل جملةً، يخلو من هذه اللفظة: "إخوة". وهذا ما يلاحظه، أيضًا، المشاركون في الخدمة الإلهيّة عندنا. وذلك بأنّ المقاطع المأخوذة من الرسائل، مثلاً، تسبق تلاوتها، في معظم الأحيان، عبارة "يا أخوة". وهذا، كما أوحينا، أساسه تنازل ابن الله الذي أعطى الناس أن يعرفوا الله أبًا، ويقبلوا الجميع إخوة لهم.

            غير أنّ هذا لا يُفهم فهمًا صحيحًا إلاّ إذا قبلنا تنازل يسوع، وارتبطنا به، وأطعناه طاعة كلّيّة. أن نحسب أنّه من حقّنا الشرعيّ أن نكون "بني العليّ" على حساب هذا الارتباط وهذه الطاعة، هو خروج على كشف يسوع ورفض لتنازله الخلاصيّ. فالبنوّة لله جوهرها أن نقبل يسوع أخًا، أي ربًّا ومخلّصًا. لأنّنا "بدونه لا نقدر على أن نفعل شيئًا"، أو نكون شيئًا، ولا يمكننا، تاليًا، "أن نأتي إلى الآب إلا به"، أو ننال اعترافه بنا.

            مَن يقرأ العهد الجديد بتدقيق، يرَ أنّه، من جهة، يحضّنا على أن نعترف بأنّنا أبناء الله، أو يدعونا هكذا، وأنّه، من جهة ثانية، يوحي بأنّ هذه البنوّة تفترض واقعيّتها أن يعترف بنا الله الآب في يومه. إنّه كما لو أنّه يريدنا أن نعرف أنّ بنوّتنا نعمة من الله مجّانيّة، وأنّ لله، وحده، الحقّ أن يقول إن كنّا استحققنا هذه النعمة، فيعترف بنا، أو لم نستحقّها، فينكرنا. والواقع أنّ البشارة الجديدة كشفت أنّ يسوع هو، وحده، ابن الله الحقيقيّ والحاصل، في آن، على اعتراف أبيه. وهذا أعلنه الآب، علنًا، في غير موقع (أنظر مثلاً: حدثي معموديّة يسوع وتجلّيه). وهذا الكشف، إن تمثّلنا بالابن الوحيد، يعطينا أن ندرك معنى بنوّتنا، وأن نرجو اعتراف الآب بنا. وبكلمات أخرى، إنّ الله، الذي تبنّانا بيسوع، يريدنا أن نشبه ابنه في كلّ شيء حتّى نستحقّ اعترافه. ولذلك ليس عبثًا أنّ يسوع رسم أنّ اعتراف الآب بنا أنّنا أبناؤه يفترض أن نحبّ جميع الناس، أقريبين كانوا أم بعيدين، وأن نعمل الخير مع الكلّ، ونعطي من دون حساب (لوقا 6: 35). وهذا عينه نوع من أنواع التشبّه بالابن.

            معنى ذلك أن نكون أبناء الله، أو أخوة بعضنا لبعض، أو كما يحلو لبولس أن يدعونا: "من أهل بيت الله" (أفسس 2: 19)، يتطلّب، واقعيًّا، أن نحبّ الله وننسب حياتنا إليه، ونحبّ، في الوقت عينه، الناس جميعًا من دون تفرقة أو تمييز، ونعتبرهم إخوتنا حقًّا. وهذا يطلب منّا اعتبارات جديدة. منها أن نمتّن علاقتنا بالله أبينا، وإذا كنّا بعيدين عنه أن نقترب منه، ونتعلّم حبّه والاتّكال عليه في كلّ شيء، كما يفعل الأطفال الصغار مع آبائهم. ومنها، أيضًا، أن نمتّن علاقتنا بالناس جميعًا، وإن كانت لنا اعتبارات أو مواقف مخالفة أن نبطلها، أي أن نبطل، مثلاً، التفرقة والخصام وكلّ أنواع العداوة. وهذا يفرض علينا أن نفهم أنّ كلّ الذين نخاصمهم، أو نرفضهم ونبتعد عنهم لأيّ سبب من الأسباب، هم، شئنا أم أبينا، أبناء الله (سواء وعوا ذلك أو لم يعوه)، وتاليًا إخوة ليسوع، أو إخوتنا. فنحن لا يمكننا أن نغيّر ما شاء الله أن يفعله في التاريخ، وما أراده جيلاً بعد جيل. فإذا تنازل يسوع وآخانا، لن نستحقّ هذا التآخي ما لم نتنازل نحن أيضًا، ونقبل الذين آخاهم يسوع إخوة لنا.

            مَن وصل، بانفتاحه، إلى حدّ أنّه اعتبر أنّ "أمّه وأخوته هم الذين يسمعون كلمة الله ويعملون بها"، لا يمكنه أن يضمّ إليه إلاّ الذين يطيعونه، ويتشبّهون به. وكلّ تشبّه ممكن إذا جدّدنا حياتنا دائمًا بنعمته، وعمّرنا قلوبنا بالمحبّة، وقبلنا الناس جميعًا. فإذا فعلنا ذلك، فلن يرفضنا الله الآب في يومه، لكنّه سيباركنا، ويعترف بنا أنّنا أبناؤه حقًّا.

شارك!
Exit mobile version