أحد الإخوة، المشهود له بوعيه، روى أمام أشخاص عديدين عن ألمٍ مقلقٍ فعلاً. وما قاله لنا، صاغ بعضَهُ في شكل أسئلة. منها مثلاً: "هل يُعقل أن يكون بعض المسؤولين في الجماعة فنّانين في إحباطك؟ هل يُعقل أن تعطيهم أذنيك ونفسك وقلبك، ولا يسألونك عن سوى ضياع الخير فيك؟ لماذا يتركونك تشعر بأنّك لا تنفع في أيّ شيء، أي أنت دون، وكفى؟ ألست أخًا، عظمًا من عظمهم ولحمًا من لحمهم؟ أين المحبّة والرحمة والرجاء؟ أين روح الشركة الأخويّة؟ وأين التشجيع؟".
ذكّرني هذا الألم المرير بحوارٍ فذٍّ أجراه يسوع، يومًا، قرب بئر يعقوب، مع تلك المرأة السامريّة (يوحنّا 4: 4- 42). لن أسجّل، هنا، وقائعَ حوارٍ ثقتي بأنّ قرّاء "مجلّة النور" يعرفونه عمومًا. فقط، سأذكّر بأنّ الربّ، عندما طلبت المرأة إليه أن يعطيها من مائه، أمرها بأن تدعو زوجها. لا يذكر الإنجيليّ أنّها، عندما سمعت أمره، أطرقت رأسها تُفكّر، بل أجابته توًّا: "ليس لي زوج". وهذا يجب أن يوحي لنا إمّا بأنّها تعوّدت أن تكذب وإمّا أن تتستّر! كان الربّ يعرف أنّها قد تزوجّت خمس مرّات، وتساكن رجلاً سادسًا، أي تحيا حياةً فاجرةً علنًا. لكنّه، فيما أراد أن يكشف لها أنّه يحبّها هي هي، تجاوز كذبها أو تستّرها، وردّ عليها كما لو أنّه يثني على صدقها! قال: "أصبتِ إذ قلت: ليس لي زوج". ثمّ كشف لها ما يعرفه عنها.
ما قيمة تذكّر هذا الحوار، الذي لا يكفي وصفه بالفذّ، في سياق إيراد ألم أخويّ مقلق؟
قيمته أنّه يدلّنا على أنّ الربّ "لم يأتِ، ليدين العالم". لا أعتقد أنّ ثمّة مشهدًا واحدًا، في الإنجيل كلّه، أجل كلّه، لا يرينا يسوع مشغوفًا بسعيه إلى خلاص الناس (أي مستعدًّا دومًا، ليموت كُرمى لأيّ إنسان في الأرض). حتّى الخونة والذين شكّوا فيه وأرادوا أن يُردوه الساعةَ، كان، عالمًا بكلّ شيء، يقبل أن يكلّمهم، ويحاورهم، ويعمل على ردّهم إلى جادّة صوابهم! وزيادةً في الإيضاح، العالمون لا يفوتهم أنّ أمثلة يسوع، لا سيّما أمثلته، كلّ أمثلته، رواها فيما شعر بأنّ ثمّة مَنْ يستقبحونه وتعليمَهُ. استعمل هذا الفنّ المعروف في زمانه، ليقول لا سيّما للمستقبحين إنّه يحبّهم، ويرغب في خلاصهم!
لا يليق بنا أن نغرق في الافتراضات. ولا أعتقد أنّني أخرج عن اللياقة إن افترضت أنّ ربّنا، لو رؤي يحمل سيفًا مثلاً، لما كانت المسيحيّة موئل أحرار، أي هي كما هي! أتى كما أتى، وديعًا، متواضعًا، وتفانى في بذل الودّ من دون أن يميّز بين وجه ووجه. أجل، كان يسوع الكلّ للكلّ. بذل نفسَهُ من أجل الكبير والصغير. الرجل والمرأة. الخطأة والزناة واللصوص والقتلة والذين خافوا من أن يعلنوا حبّهم له! وهذه، أي هذه الأيقونة الإلهيّة الخلاّبة، لا يمكن أحدًا، أيًّا كان، أن يُرضي الله إن أهمل التمثّل بها!
أين التشجيع؟ هذا، الذي ختم أخونا فيه حُزمة أسئلته، إن أردنا تحليله بعيدًا من حوار الربّ مع السامريّة، فيلزمنا واقع الحال أن نرى أنّ تشجيعنا سوانا، متى قمنا به، نحصره إمّا بِمَنْ تربطنا به قربى جسديّة، أو بِمَنْ خيره ظاهر بغيةَ أن يزداد فيه. هذا عمومًا! لكنّ الحوار يرينا أمرًا، قلّما نراه في الأرض، أي أنّ يسوع شجّع امرأةً لا شيء يبيّن أنّ ثمّة خيرًا عالقًا حتّى بأذيالها. امرأة تشبه العدم، تشبه الموت، تشبه الجحيم، تشبه ذاتها! إلى هناك، إلى عمق جحيمها، نزل يسوع. رآها تفترش العيب، تسكن الخيبة والخوف والبعد، ونزل. وردّها بكلمات "تبدو غير موضوعيّة"! ردّها إليه عظيمة، حرّة، قريبة، وإلى الناس جريئة، تحمل رسالةً جديدةً تقول بثقة: "رجلاً قال لي كلّ ما فعلت، أتراه المسيح؟".
هذه الرسالة الجديدة الواثقة إنّما هي المعيار الوحيد الذي يكشف إن كان خطابنا إلى الإخوة نافعًا أو معقَّدًا! فكلّنا، أجل كلّنا، مسؤولون عن أن نفرش دروب الإخوة بورود الودّ والتشجيع، ونترك لهم أن يعترفوا هم أنفسُهم بخطاياهم. "رجلاً قال لي كلّ ما فعلت"، هذه لا يستطيع أحد أن يقولها عن سواه، بل كلّ مَنْ التقى الربّ، وآمن به حقًّا. وإن قالها، يقيمه قوله شاهدًا للمسيح. "أتراه المسيح؟"!
هل أريد أنّ ما أقوله يمنعنا من أن نذكّر الإخوة بشرّ الخطايا النتنة؟ لعمري، لا! لكن، أعتقد أنّ معظمنا يعلم، أو هذا ما يجب، أنّ أيّ خطاب، نتوجّه فيه إلى آخر (أو آخرين)، لا يمكن أن يأخذ بتلابيبه ويربحه للربّ، إن لم نُرَ أنّنا واحد معه! وهذا يعني، دائمًا، أنّ ثمّة فرقًا عظيمًا بين شخص يمتهن أن يأتي إلى الإخوة فيما يفصل نفسه عنهم، وآخر يتنازل إليهم! كلّ خطاب يفترض نزولاً. نزولاً، تعوّدنا أن نسمّيه تنازلاً. تنازلاً، أي شركة. شركة، أي مصير واحد يقول، بصدق، نموت جميعنا، أو نحيا جميعنا!
ذكرت ما سمعته من فم أخينا. ولكنّني لم أذكر ما قاله له آخرُ في تلك الجلسة عينها. إذًا، إثر ما سمعناه، توجّه أحد الإخوة إلى الأخ المتألّم، وسأله: "هل تعلم، يا أخي، ما الذي يميّز إنسانًا مقتنعًا بحقّ الله من آخر غير مقتنع؟". نظر إليه سامعُهُ بتعجّب، ثمّ قال: "وما الذي يميّزه؟"! ردّ عليه: "انظر إلى يده! أجل، انظر إلى يده! إن رأيته يحمل سيفًا فيما يقول للآخرين أشياء الله، فتأكّد أنّ ما يقوله لا يقنعه"!
كان بإمكاني أن أترك ما سمعته، من هذا الأخ وذاك، في تلك القاعة الحبلى بالمرجوّات. لكنّ محبّتي للإخوة جميعًا، المسؤولين في الجماعة والذين يتألّمون إن من بعضهم أو من سواهم، أمرتني بأن أكتب هذه السطور العجلة. وكلّ ما أنتظره، في نهايتها، أن تُقرأ بودٍّ كان مِدادي فيما كنت أكتبها.