قَبْلَ سفر صديقه، ببضعة أسابيع، اقتنع بأن ينضوي إلى لقاء كانت تعقده، في قاعة كنيسة رعيّته، زمرة من الشباب ينتمون إلى "حركة سابحة في الدين"[1]، أطلق عليها مؤسّسوها اسم "حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة". لا يقدر على أن يحدّد إن كان إلحاح أخته هو الذي استيقظ في قلبه فجأةً، وساهم في اقتناعه! وابتدأت قصّة أخرى وجّهت حياته إلى دروب جديدة لم يكن يخطر بباله، في يوم من الأيّام، أنّه سيمشي فيها.
لو استطاع أن يضمن ما يقوله لنفسِهِ، لَوَصَفَ قصّـته الأخرى بأنّها انتقال من بيت أبيه إلى بيت أبيه. من أب يموت بعيدًا في غربته، إلى آبٍ حيٍّ ومحيٍ. من بيتٍ أفرادُهُ لهم أب واحد، إلى بيتٍ كلُّ الناس، فيه، أولاد "آب واحد" (أفسس 4: 6). كيف يلتئم الشعب المبعثر؟ كيف يصبح الناس البعيدون إخوةً حقيقيّين (عبرانيّين 2: 11)؟ هذا أمر اكتشفه في قاعة وضيعة في أسفل كنيسة رعيّته. قلتُ لو استطاع أن يضمن. فهناك، في القاعة، تعلّم أنّ المسيحيّ يمكنه، لا بل يجب عليه أن يؤمن بالله أبًا، وأن يناديه أبًا. ودليله على ذلك "أنّ الله أرسل روح ابنه إلى قلوبنا، الروح الذي ينادي أبًا، يا أبتِ" (غلاطية 4: 6). لكنّه لا يمكن أن يعرف، قَبْلَ "اليوم الأخير"، قرار الله فيه. يحيا ابنًا على الرجاء، ابنًا "ينتظر التبنّي" (رومية 8: 23)، ابنًا يخاف أن يُرفض (عبرانيّين 10: 31).
أوّل ما ذكّرته به تلك القاعة أنّه معمَّد. كان يعرف أنّ أبويه عمّداه، طفلاً، في إحدى كنائس أبرشيّة بيروت، كنيسة الحيّ الذي وُلِدَ فيه. ولكنّه لم يكن يفقه شيئًا من معموديّته. فالتزم أنّه معمَّد. وأحبّ هذا الالتزام. واحتلّ، في قلبه، المكان كلّه. وصار يعنيه كثيرًا، ليحسن التمييز بين العتيق والجديد (2كورنثوس 5: 17). وكلّ ما هو غير التزامه الجديد بات عتيقًا عنده. بقي يلتزم أهل بيته وبعض أقربائه ومعارفه. ولكنّه صار يشعر بأنّه يخصّ "أهل بيت الله" (أفسس 2: 19). هل حبّه "للحياة الجديدة"، التي عرف أنّ أباه الراقد يمكن أن يكون له نصيب فيها، هو الذي جعله يحبّ التزامه الجديد؟ هذا ممكن كثيرًا. فهنا، الموت ليس النهاية. قناعته بأنّ للناس موعدًا أزليًّا مع الحياة الأبديّة (طيطس 1: 2)، لربّما صارت مختصر قناعته الإيمانيّة.
لم يفهم، في تلك القاعة، أنّ الحياة الأبديّة حدث مرجأ بالكلّيّة. فالوعد لا يكون وعدًا إن لم يكن، منذ الآن، استباقًا. ولربّما ذوقه حياة الشركة الأخويّة كان يكفيه دليلاً على ذلك. في سرّه، صار يأخذه هذا. ولسان حاله أنّه أخذ نصيبه في الدنيا. فلو أراد الله، في "أوان فتح الكتب"، أن يعاقبه على خطاياه، التي بقيت تلاحقه، لما كان العقاب، الذي سيناله، عقابًا كاملاً! باتت قناعته أنّ الحياة الكنسيّة هي مكافأة كاملة. الذين شاركهم في تلك القاعة كانوا جميعهم يرجون أن يحيوا أبدًا. وعلّموه أن يحذو حذوهم. ولكنّ شركة الإخوة صارت، عنده، بعضًا من أبد، أو "أيقونة الأبد". لم يعتبر هذه القناعة استعارة متعثّرة، أو ضربًا من ضروب الخيال والوَهْم، أو حماسة تتعلّق بمطالع الالتزام، بل إنّما حقيقة الوجود، كلِّ الوجود. فَهِمَ أنّ الله جعل "أبده في قلوب الناس" (الجامعة 3: 11). ولذلك بقي يستصعب ما قصده بولس بقوله إلى المؤمنين في كنيسة كورنثوس: "ما لم تره عين، ولا سمعت به أذن، ولا خطر على قلب بشر، ذلك ما أعدّه الله للذين يحبّونه" (الرسالة الأولى 2: 9). وغطّى صعوبته باعتباره أنّ الرسول لا بدّ من أنّه استند، في قوله، إلى برّ الحياة الكنسيّة، إلى "الحياة في المسيح" (فيلبّي 1: 21). أراد أن يمدّ الكنيسة "التي هي ملء الذي يملأ الكلّ" (أفسس 1: 23). أرادها فوق كما هي هنا، ولكن من دون أيّ نتوء. تتخلّص من كلّ ما هو ضدّها، وتتمجّد. رأى أنّ الكنيسة، على الرغم من بعض المصاعب التي أخذ يعرفها، هي "مقرّ الله" في الزمان وفي الأبد. ولم يعتبر، يومًا، أنّ في رؤيته نقصانًا.
هذا الالتزام كان ركيزته لقاءً أسبوعيًّا. شباب، لا يتجاوز عددهم العشرين، صاروا حياته حقًّا. كلّ ما يحكى عن الكنيسة يسيطر على ذلك اللقاء الخصيب. المحبّة والعلم والرقّة والفرح والرفقة والنصح والعضد والحلم والطموح وحبّ التغيير، وغيرها، يحرّك كلّ جلسة من جلساتهم. يلتقون مساء كلّ يوم جمعة. ولكنّهم، في الواقع، يأتون من نهار يوم الأحد. صار يفتنه يوم الأحد. عاد يشارك في صلواته من دون أيّ شعور بالخجل. وتحوّل عرقه، الذي كان يتصبّب عند دنوّه من الكأس المقدّسة، إلى دموع يذرفها في غرفته أمام كلمات جديدة تعلّم أن يردّدها، على نفسه، صباح مساء. لم يكن يملك أيقونة، في منزله، ليصلّي أمامها. كانت الكلمات، التي تلتقطها أذناه، هي أيقونته الوحيدة. رفاق القاعة كانوا، في كلّ لقاء، يوصون بعضهم بعضًا بأن يحتفظوا بما يتداولونه. وصارت كلماتهم زاده إذا مشى، أو وقف، أو تكلّم، أو عمل، أو أكل، أو تخشّع، أو نام.
لم يكن يعرف، قَبْلَ التزامه، حرفًا واحدًا ممّا سجّله كتاب الله. كان يوجد، في منزله، "كتاب مقدّس". لكنّه لم يحاول، في يوم من الأيّام، أن يقرأ فيه، أو حتّى أن يفتحه، ويقلّب صفحاته. كان يشبه أباه بجهله كلمةَ الله. الفرق الوحيد أنّ أباه قد اقتنى "كتابًا" لم يكن قادرًا على أن يقرأ فيه! أمّا هو القادر، فلم يقتنِ، ولم يستعمل الموجود! وفي صلوات الأعياد، التي كانت "أمّه تضطرّه إلى المشاركة فيها"، كانت تتلى، على مسمعه، مقاطع من العهد الجديد. ولكنّ ما يُتلى كان يسرب من أذنيه توًّا. لا يستطيع أن يقول إنّه حفظ حرفًا واحدًا ممّا مرّ على مسمعه. هناك، في القاعة، كان الشباب "يهملون كلّ ما يطلبه الشباب"[2]، ويلتفّون، بحبّ كبير، حول كلمات الربّ. كانوا يردّدون الكلمة الإلهيّة بحماسةٍ وغبطةٍ لم يجد تشبيهًا لها أفضل من فرح أبٍ يردّد كلمات طفله في أوّل نطقه. فاكتشف الكلمة. لم يعتبر أنّ هذا الاكتشاف أمر يضاف إلى معموديّته التي صار يشعر بأنّه يجدّدها كلّما تلا "دستور الإيمان" الذي تعلّمه على أبيه، بل فهمه امتدادًا لها، أو من أولى متطلّباتها الملزمة. يذكر، إلى اليوم، أنّ أحد رفاق القاعة شرح لهم سبب اختيار الكنيسة آخرَ مقطعٍ في إنجيل متّى (28: 16- 20)، ليُقرأ في خدمة المعموديّة. ولفته أنّه استند إلى قول الربّ يسوع: "فاذهبوا وتلمذوا جميع الأمم، وعمّدوهم باسم الآب والابن والروح القدس، وعلّموهم أن يحفظوا كلّ ما أوصيتكم به، وهاءنذا معكم طوال الأيّام إلى نهاية العالم"، ليبيّن أنّ حفظ الكلمة ونقلها مسؤوليّة كلّ من "فتح الربّ عيني ذهنه" في المعموديّة. ولربّما أكثر ما أذهله، في كلام رفيقه، قوله: إنّ "الربّ معنا دائمًا، لا ليساعدنا على تنفيذ تكليفه فحسب، بل، أيضًا، بكلمته التي نحفظها، وننقلها". هناك، اقتنع، دفعة واحدة، بأنّ "كلمة الله" تلقاه بكلمته. ودخل، مع الكلمة، في علاقة ودّ.
بما يقوله الإخوة، أخذ يحكم قراءته كلمةَ الله. وأمام كلّ صعوبة (يوحنّا 6: 60)، كان يعود إليهم. والصعوبات جمّة دائمًا، ولا سيّما في مطلع الالتزام. فصار يسجّل أسئلته على دفتر خاصّ، ويطرحها عليهم في لقائه الثابت بهم. وفَهِمَ أنّ الكلمة يصعب فهمُها بعيدًا من شركة الجماعة التي وهبها الربّ "كلّ الغنى في فنون الكلام وأنواع المعرفة" (1كورنثوس 1: 5). لم يكن يعرف، في ذلك الحين، أنّ كتب العهد الجديد، برُمِّتها، أُرسلت إلى الجماعة المسيحيّة الملتقية في سرّ الشكر، أي إلى الجماعة التي يحوّلها روح الله كما يحوّل القرابين إلى جسد الكلمة ودمه (1كورنثوس 10: 17). لم يكن يعرف أنّ الربّ أعطى جماعته حقّ تفسير كلمته، بقوله: إنّ "روح الحقّ (الذي بنوا عليه اسم فرقتهم) يرشدكم إلى جميع الحقّ" (يوحنّا 16: 13). لكنّه وجد ذاته يسلك كمن يعرف. أو قلْ: إنّهم عبّدوا له هذا الدرب. الإخوة، الذين اكتنفهم الروح بحضوره ونفح فيهم إخلاصًا له، يفرضون أنفسهم عليك، لتكون كلّ قراءة، في كتاب الله، قراءة صالحة (عبرانيّين 6: 5). الإخوة أساس حتّى لا يتجاوز القارئ، كلّ قارئ، ما يريده الربّ من كلمته. فزاد حبّه للكلمة من حبّه لإخوته. وزادوا هم أنفسُهم من حبّه للكلمة. وفي طرحه أسئلته عليهم، اكتشف كم بالهم طويل وصدرهم رحب. فقد تسأل سؤالاً عاديًّا، وأحيانًا سخيفًا. وقد تسأل سؤالاً سأله أشخاص عديدون، قبْلَكَ، مئة مرّة وأكثر. ولكنّهم لا يشعرونك بذلك. وتأتيك أجوبتهم، وكأنّ كلّ سؤال، من أسئلتك، يُطرح عليهم أوّل مرّة. أنت مهمّ عندهم، وكلّ ما يأتي منك هو، أيضًا، مهمّ.
بعد كلّ لقاء، صار يتركهم من دون أن يتركوه. وألحّ عليه حضورهم أن يسعى إلى أن يراهم في كلّ يوم. وفي الواقع، هم، لكونهم معًا، شجّعوه على أن يمشي في إثرهم. أو قلْ: جعلوه يطيع ما أخذ يرغب فيه. في لقائه بهم، خارج "الاجتماع" (كما كان يحلو لهم أن يسمّوا لقاءهم الأسبوعيّ)، لم يجدهم يترفّعون عن الدنيا. رأى أنّهم مثل باقي الناس. الفرق الوحيد أنّهم أنقياء. خُلقهم مختلف. حديثهم مختلف. ويحبّون بعضهم بعضًا. إذا رحتَ معهم في رحلة، تجدهم يأكلون، ويشربون، ويضحكون، ويمرحون. وإذا زرتَ أحدهم في بيته، تجد نفسك معروفًا منذ أن تدخل. كلّ أهل البيت ينتظرونك، وينادونك باسمك. الكلّ يعنيهم ما يعني أولادهم. أخبار الكنيسة في كلّ بيت. يا لَمحبّتهم! فقراء، ولكنّهم كرماء. يحارون ماذا يقدّمون لك. إن عرفوا، مثلاً، أنّك لا تشرب مشروبًا ساخنًا، يهيّئون لك ما يعرفون أنّك تفضّله. وإن أتيتهم، في وقت العشاء، فممنوع عليك أن تؤخّر نفسك عنهم. المائدة ممدودة. ويجب أن تقعد، وتشاركهم في طعامهم. وكما بيوتهم قلوبهم. فأنت بتّ تعرف أنّك يمكنك أن "تعتمد عليهم في كلّ شيء" (2كورنثوس 7: 16). إن تعبت، أو حزنت، أو قلقت، أو ضاقت الدنيا بك، تجدهم كتفًا لك (صفنيا 3: 9). أين كانوا؟ كيف لم تعرفهم من قبل؟ كان، بعد كلّ لقاء، يوبّخ نفسه على الأيّام التي لم يعرفهم فيها. ما من أمر أصعب من أن تذهب حياة الإنسان سُدًى!
كان يحتاج إلى هذه القربى، ليدرك أنّ الحياة الكنسيّة هي، فعلاً، غير محصورة بجدران قاعة، أو ببناء كنيسة. لقد تيقّن، منذ أوّل لقاء جمعه بهم، أنّ الكلام الإلهيّ شأنه أن يصير فعلاً. لكنّه تعرّف إلى أمر آخر لا يمكن أن يصير كلام الله فعلاً، حقًّا، من دونه. تعرّف إلى شركة الإخوة، إلى الكنيسة في العالم. في العالم، الناس يزعجون بعضهم بعضًا إلى المعصية، ويتعاورون الخطايا. هو لم ينسَ ذلك. ومصير أهل الخير أن يعفّوا عن الشرّ، ويسندوا بعضهم بعضًا في كلّ ما يرضي الله، ويظهر مجده. لم يفهم أنّ المساندة بديلٌ من الالتزام الشخصيّ، "فإنّ كلّ واحد يحمل حمله" (غلاطية 6: 5)، بل إنّها تعضده. تجعله ممكنًا حقًّا. صار يتمنّى لو أنّ جميع الناس يذوقون طيب هذه الخبرة. وفي سرّه، بقي يتذكّر صديقه الذي غاب عن بلاده. لقد تسنّى له أن يشارك، قَبْلَ رحيله، في اجتماعات عدّة. لكنّه ذهب قَبْلَ أن تتّضح له الحقيقة كلّها. "الحقيقة الصادقة". "الحقيقة التي في يسوع" (أفسس 4: 20). يا ليته بقي. لو بقي، لكان توطّد بدنيا "الكلمة" وأهله. هُمُ الدنيا. كان يعرف، من بعض الناس القريبين، ومن رسائل صديقه القليلة، أنّ الناس، في الخارج، تهمّهم أعمالهم ومصالحهم الشخصيّة فحسب. "لا أحد يسأل عن أحد". "يحيون فرادى". "كلّ واحد دنيا نفسه". تذكّر صديقه، وحزن عليه حزنًا شديدًا. كان قد أخبره عن فرحه بانتسابه إلى جامعة عريقة. وقرأ دموعه التي تسبّبها وحدته. "الغربة وحدة، وحدة قاتلة!". "لماذا لا تقصد الكنيسة التي هناك؟"، كتب له مرّةً. هو لم يقصد، بما كتبه، أن يساعده على البقاء في الخارج! كان يريده أن ينهي دراسته، ويعود. لكنّه قدّم له اقتراحًا قَبْلَ عودته. كان يرغب في أن يخبره بكلّ ما عرفه وجهًا بوجه. فانتظر العودة. طال انتظاره. صديقه تعوّد الغربة. خرج ليكمل تعليمه، وبقي في الأرض البعيدة التي استضافته. وتعوّد هو، أيضًا، غربة من نوع آخر. غربة لا يحاكيها وجود. غربة باتت، عنده، الوجود كلّه.
[1] الشمّاس أغناطيوس هزيم (حاليًّا، غبطة البطريرك)، أنطاكية تتجدّد، منشورات النور، صفحة 46.
[2] جورج خضر (حاليًّا، المطران جاورجيوس، متروبوليت جبيل والبترون وما يليهما)، أنطاكية تتجدّد، صفحة 125.