الأب إيليّا متري | Father Elia Mitri

أن نغلب العالم

                هل وصلتُ متأخّرًا؟

                كان عليك أن تفكّر في أنّني موجود.

                هذا قلتُهُ لك قَبْلاً.

                لقد أخبرتني بأنّك قد اشتريتَ، من دون أن تستشير أحدًا منّا، هاتفًا نقّالاً جديدًا. كان معك ثمنه. خرجتَ، وفعلتَ ما فعلتَهُ وحدك.

                حسنًا! أقنعني.

                أنا لم أفهم لِمَ هذا الهاتف، وهاتفك ما زال جديدًا. وأريد أن تبيّن لي حجّةً مقنعة.

                لن أقول لك: ردّه إلى مَنْ باعك إيّاه. على ما يوحي هذا الردّ من تراجع عن الخطأ، لن أقول لك ذلك. فما فعلتَهُ، لا يحلّه أن تردّه. ما فعلتَهُ خطأٌ أشعرني بأنّك فتحتَ باب تجاوزك إيّاي على مصراعَيْه. فأنت ارتكبتَ ما ارتكبتَهُ على علمك بأنّني لن أرضى عنه. خطؤك أنّك حاولتَ إلغائي. والأب يواجه، يناقش. لكنّه لا يُلغى.

                إذًا، لا ألومك على شراء هاتف فحسب، بل على محاولة إلغائي.

                منذ أسبوع تقريبًا، التقيتُ بشخصٍ أعرفه منذ سنوات طويلة. جمعتنا المصادفة في منزل صديق مشترك. وفيما كنّا منشغلين في حديث عامّ، أخذ هو يخبر مضيفنا عن ظروفِ تَعَرُّفِهِ بي. وكشف، أمامي، ما لم أكن أسمعه منه من قَبْل. قال إنّه، بعد لقائنا الأوّل، قال لزوجته إنّني لم أُبدِ رأيًا في بعض أمور سمعتُها منه. وزاد أنّه حَسِبَني صغيرًا على الأمور الكبرى. وهذا، أقول لك يا بنيّ، ليس بعيدًا من أسلوبي. فمن عادتي، من دون أن أنكر صغري، أنّني أترك، لا سيّما في مطلع معرفتي الناس، فسحةً تساعدني على أن أعرف بعضًا من جوانب شخصيّـتهم. فأنت تعرف أنّني، مثلاً، لا أخوض، مع أيٍّ كان تعرّفتُ به جديدًا، حديثًا في أمور الدنيا، ولا سيّما في السياسة. بلى، أردّد أمورًا عامّةً أراها تجمع، ولا تفرّق. فأنت لا يفوتك أنّه لا يجوز أن يقول أحدنا شيئًا يجرح لا سيّما مَنْ لم تتسنَّ له معرفتهم جيّدًا. فعادتي سببها رغبتي في تجنّبي جرح مَنْ قد أحسب أنّ آرائي قد تزعجهم، وتجرحهم.

                ربّما تسأل: لِمَ أخبرك هذا؟

                أخبرك هذا، لأذكّرك بما أنت تعرفه جيّدًا. فأنا وأنت لم يتعرّف أحدنا بالآخر في صبيحة هذا اليوم. أنت تعرف ما يقنعني وما لا يقنعني. وقرّرتَ ما لا يقنعني وحدك. قلتُ لك إنّ هذا إلغاء. وأنا لم أنتظر أن تلغي أباك بهذه السهولة!

                منذ مدّة، لا يمكنني أن أعتبرها طويلةً، كنتَ، إذا طلبتَ مصروفًا، وأعطيتُكَ أكثر ممّا طلبتَهُ، تحمرّ وجنتاك خجلاً، وترفض بصدق كلّيّ. وكنتَ تتعبني، حتّى تقبل. وكنتُ أفرح بترفّعك عن محبّة المال الذي هو "أصل كلّ شرّ". لم أكن أفرح بُخْلاً. فأنت تعلم أنّني لم أبخل عليك مرّةً. لقد ورثتُ عن أبي أن أقدّم لأولادي ضعف ما يطلبونه. هذا جنون أعتزّ به. وما يؤكّد كرمي عليك أنّك كنتَ تملك ثمن هاتف جديد. أليس هذا دليلاً؟

                لماذا فعلتَ ذلك؟

                أيضًا منذ مدّة، (أمّا هذه، فقريبة)، بدأتُ أشعر بأنّك بدأتَ تعاندني في أمور لا تحتاج إلى معاندة. وإن واجهتُكَ بأمرٍ يعيبك أن تعاند فيه، يأخذك أن تدافع عن نفسك. أنا، صدّقني، لا يزعجني أن تدافع عن نفسك حيث أنت على حقّ. أمّا أن تفعل فيما تعرف أنّك على خطأ، فهذا لا يزعجني فقط، بل يغضبني أيضًا. ربّما لم أقل لك، قَبْلاً، إنّني، إن طلبتُ منك أمرًا وأجبتَني: "لا" تريد أن تنفّذه، فتفرحني هذه الـ"لا"، أحيانًا، كما الـ"نَعَم" التي تصدر عنك. فأنا لن أخلّد في الأرض. والـ"لا" منك تشعرني بأنّك بتَّ حرًّا حتّى منّي.

                لاحظ!

                أنا أحبّك أن تحترم ما تعرفه فيَّ. وأنا، أنا، ألغي نفسي.

                تفهّم ما أقول!

                يا بنيّ، هذا العالم شرّه كافٍ، حتّى يحوّل كلّ مَنْ يغرق في غيّه إلى لعبة بين يدَيْه. فهذا العالم لاعب ماهر. يلعب، ويستهلك مَنْ يلعب بهم. وما يمكنك أن تعتبر أنّه الأكثر قيمةً عندي، هو أن تبقى حرًّا من العالم وفي العالم. عندما قلتُ لك: أحيانًا تفرحني الـ"لا" منك، كان قصدي أن تتمرّن، إن كنتَ تقولها لي، أن تقولها لكلّ ما (أو مَنْ) تعرف أنّه يخالف لا سيّما المنطق الحقّ. فهذا العالم لا يمكننا أن نقول له دائمًا: نعم، نعم. هذه نقولها لِمَنْ نرى أنّه يستحقّها، ونقولها للربّ ما حيينا. أنت تعرف أنّ عصب علاقتنا بالله أن نؤمن بأنّه أبونا. والآب يرعى أولاده إلى ما فيه خيرهم. ومن دون أن نسقط في مقابلة بين الله والعالم، أنت يجب أن تعلم أنّ شأن العالم أن يسوقنا إلى وهْم الخير. أنا لستُ محلّلاً اجتماعيًّا. غير أنّه لا يعيبني أن أتصوّر أنّ هذه الدنيا يحكمها بعضُ مَنْ لا يؤمنون بأنّ ربّنا قد "افتقر لأجلنا". يصوّرون لنا العالم برّاقًا، لنخرج على إيماننا، أي لنغدو عبيدًا لغير الله الذي حرّرنا.

                أنت تذكر أنّك، لمّا طلبتَ أن أشتري لك هاتفًا نقّالاً، اضطررتَني إلى ما لا يقنعني. هذا تنازل يخصّني. بلى، أنت يمكنك أن تطلب منّي ما تشاء. لكن، أن أنفّذ لك ما تطلبه، فهذا أمرٌ يخصّني. لا يعجبني أن تقرّر أنت تنازلي عندما تريد. ولا يعجبني، اليوم وغدًا، أن يسحرك كلّ ما يُحسب برّاقًا في العالم. وهذا لن تستطيع أن تتجنّبه إن لم تقرّر ذلك اليوم. وأعني اليوم حيث ليس لك استقلالٌ مادّيّ. هل يجوز أن تحاكي الشباب الذين يفعلون ما ربّما لا يرضى عنه أهلهم، على نفقة أهلهم؟ أنا لا أفصلك عنّي. وأنا لا أعتبر أنّني أملك شيئًا لا يخصّك.

                يا لَيتَكَ تذكر كلماتٍ قلتَها أنت منذ سنين!

                كنتَ أنت تقول ما أقوله لك اليوم.

                يا بنيّ، هذا العالم لا يغلبه سوى الأطفال.

                هل تعرف ما هو الأمر الذي يُعتبَر من أعلى قيم الطفل؟

                أعلاها أنّه لا يرى وجوده بعيدًا من أبيه.

                أنت لا بدّ من أنّك شاهدتَ طفلاً وأباه يهمّان أن يتجاوزا تقاطع طريقَيْن. ويمكنني أن أعرف أنّك تشاركني في رأيي إن قلتُ إنّ أكثر ما يلفت، في هذا المشهد، أنّك ترى الطفل يضع راحته في يد أبيه. وَمَنْ يمسكه بقوّة، إنّما هو أبوه. كلّ ما يفعله الطفل أنّه يضع راحته براحةٍ لا تفسَّر. إنّها صورة الاطمئنان الكلّيّ.

                أنت بتَّ بالغًا. لكنّ البلوغ لا يوافقه سوى أن نبقى أطفالاً دائمًا، أطفالاً لله.

                لا، أنا ليس همّي، في ما أقوله لك هنا، أن أقيّد حرّيّتك التي أرجو أن تزيّنك دائمًا. همّي أن تبقى على طراوة طفولتك. فهذه الطفولة هي التي تدفع عنك اليتم، وتبقي ارتباطك ليس بي، بل بالله أبيك الحقيقيّ أبدًا. حافظ على هذا الارتباط. فمشيئة الله أن يمسك بيدك دائمًا، ويقودك إلى بَرّ أمانك. وإن سقطتَ، أن ينتشلك من كلّ سقطة مؤذية. هذا العالم لا يغلبه سوى أطفالٍ يؤمنون بأنّ الله أبوهم. فقول ربّنا: "ثقوا، إنّني قد غلبتُ العالم"، لا يمكن أن يفهمه إلاّ الأطفال الذين جعلوا راحتهم في يد الله.

                هل يستحقّ ما فعلتَهُ أن أقول لك هذا كلّه؟

                أجل، يستحقّ! فأنت يجب أن تذكر، باستمرار، أنّك قد تربّيتَ على أنّ الأخطاء سلسلة. تخطأ مرّةً، وترى نفسك تنجرّ في خطأ تلو آخر وتلو آخر. ونحن لا نقدر على أن نردّ كلّ هاجس يعترينا إلاّ بطفولة يجب، ما حيينا، أن نبقى على براءتها. هذا، وحده، يدلّ على أنّنا نعي أنّ الله حاضر معنا، ويعيننا على كلّ ما يرضيه. الناس، في الدنيا، يعتقد الكثير منهم أنّ شرط الحياة في العالم أن نتعاطاه. وهذا لا يغدو صحيحًا كلّيًّا إن لم نضف إليه: (أن نتعاطاه) من دون أن نسمح له بأن يتعاطانا. وكيف لا نسمح له؟ ببقائنا أحرارًا. فأنت لا أظنّ أنّه يفوتك أنّ الخطايا قد تنتقل بالتناقل. ترى ما يفتن سواك. ويغريك أن تشتهيه لنفسك. وهذا ضدّ الحرّيّة الحقّ. وإن كنّا نؤمن بأنّ الله حرّرنا وأرادنا أحرارًا، فيجب أن نبيّن إيماننا في عالمٍ شأنُهُ أن يسعى إلى أن يجعلنا عبيدًا له.

                يا بنيّ، الحرّيّة معطى ومسعى. فاسعَ، دائمًا، إلى أن تحافظ على إرادة الله التي تنقذك في عالمٍ لا يغلبه سوى المصرّين على حرّيّة الطفولة.

شارك!
Exit mobile version