المسيحيّة، كلاًّ متكاملاً، التزامُ حياةٍ واعيةٍ هدفُها مجدُ الله. ومن صميم هذه الحياة أن نصلّي.
عندما تعهَّدَنا الإخوةُ المعتبرون في كنيستنا، كان عصب عملهم أن يرتبط كلّ مَنْ معهم بالله ارتباطًا شخصيًّا. أعطتنا معرفتهم العميقة ورعايتهم الواعية الرصينة، التي كانوا يبذلونها على الكلّ من دون مكيال، أن ترغب قلوبنا في أن نبقى، ما حيينا، في جَوِّهم المقدَّس. ومن هذا الجوّ، كنت تراهم، في وقت مقبول وغير مقبول، يحثّون بعضهم بعضًا، ولا سيّما الآتين جددًا، على أن يرتدوا ثيابًا جديدةً تردّ عنهم برد البعد. ترى شغلهم الشاغل أن "تترك ما هو وراء، وتمتدّ إلى الأمام" (فيلبّي 3: 13)، إلى الحيّ الباقي الذي أحبّك منذ الأزل. فمعهم، الله، وحده، هو الكلّ. يرونك تعتزّ برفقتهم. وفيما يحبّونك رفيقًا قريبًا دائمًا، لا يمنعهم احترامهم حرّيّتك من أن يمطروك دفعًا إلى أن تغدو أعلى ممّا أنت عليه، إلى أن تنمّي ما نلتَهُ في معموديّة نسبتك إلى الله وشعبه، أي، باختصار، إلى أن تكون، أنت أيضًا، مفيدًا لهم في كلّ شيء.
هذا من جمال التربية المتألّقة في كنيستنا الأرثوذكسيّة. كلّ إنسان قيمة في عيني الله. ولست بمعتقد أنّ أحدًا من الإخوة الأقوياء، إن لم يحرّكه اعتبارُكَ قيمةً، قادر على أن يدفعك إلى أن تتّكئ على صدر الله الذي تنحدر منه كلّ العطايا الصالحة. فأنت قيمة، تعني، عند مَنْ قوّتُهم ربُّهم، أنّك حجر حيّ في بناء الله، وضرورة من ضروراته في عرضه وطوله وعمقه وارتفاعه (أفسس 3: 18). والبناء، الذي لا يمكن أن يتخلخل إن لم ترتضِ دفع إخوتك، يعوزه، باستمرار، أن تزداد لا سيّما في المحبّة، أي في أن تقابل الحبّ بحبّ يعلّمك، وحده، أن تمتّن علاقتك بِمَنْ أنعم عليك بمعرفته، وتتدلّل عليه ما طاب لك الدلال.
إذًا، أن نصلّي. والصلاة ليست كلمات فحسب. إنّها "كلمات ليست كالكلمات". إنّها انفتاح على الله بهذا المعنى الذي يجعلك تنتظر منه كلّ الخير، وتعيد إليه كلّ المجد. ليس من التزام صحيح لا تدعمه صلة بالله اعتدنا أن نسمّيها الصلاة. كلّ ملتزم، في الجماعة، يمكنه أن يدرك، من دون أيّ جهد، أنّ ما يفعله الإخوة، كلّما التقوا معًا، أنّهم يرفعون قلوبهم إلى الله. وحياة الجماعة مثال حياة كلّ عضو فيها. إن صلّت مجتمعةً، فيعني أنّ على أعضائها جميعًا أن يلتزموا الصلاة دائمًا. يصلّون معًا، ويبقون معًا، في صلوات يرفعها كلٌّ منهم، إن مشى على الطرقات أو بات في منزله، نام أو قام. فالصلاة قيمتها العظمى أنّها تدلّ على أنّ كلّ عضو في الجماعة أساس حياته هو الله وحده. الله الحاضر. الله السامع. الله المجيب. والله الذي يحبّ أن يسكن في الناس، ليضيء فيهم "ضياء النيّرات في الكون" (فيلبّي 2: 15). ليس من أمر أعمق دلالةً على الوعي من شخص يؤمن بأنّ الله حاضر "الآن وهنا"، ويخاطبه وجهًا بوجه. هذا، تراثيًّا، موقعٌ للكلام مع الله لا يفوقه موقع. ربّما أنت تلوّن قلبك بأمور عديدة تثيرك في المسيحيّة. ولكنّك، إن أهملت أن تصلّي، فأنت تشبه إنسانًا حرم نعمة النطق، أو لم تفهم أنّ المسيحيّة كلّ متكامل. ولذلك كانت صحّة التربية أن يدفعك إخوتك إلى أن تكلّم الله دائمًا. أن تراهم يفعلون وتقتدي بهم، أو أن يدفعوك، ما من فرق. فإن كان مطلع رعاية الإخوة لك أن يستقبلوك باحتضان مدهش، ويصبروا عليك بصبرهم الجميل، ويرضعوك كلّ ما يغذّيك ويقوّيك، فقمّتها أن يرموك في حضن إلهك، لتعمّر قلبك بنعمة أن تخاطبه.
هذا كلّه يعني أن تلتزم، أوّلاً، صلوات الجماعة التي أنت عضو فيها. كثيرون يعتقدون أنّ المهمّ في الصلاة أن يردّد الإنسان ما طاب له من كلام. ولكنّ الصلاة الحقّ هي التي تزكّي عضويّتك الكنسيّة، وتنمّيك عضوًا في الجماعة. فالإنسان، فيما يحسب أنّه يصلّي، قد يغرّب نفسه. أنت عضو في الجماعة، يعني أنت تقول ما تقوله هي تحديدًا. وبعد إتمام هذا، كما يليق بالله وإرثه المقدَّس، أنت حرّ في أن تزيد ما شئت. هناك إخوة، في كنيستنا، لا يعرفون ما عليهم أن يصلّوا. وهناك آخرون يصلّون أيّ صلاة تقع بين أيديهم. وهناك غيرهم يلتزمون صلوات لم ترد في تراثنا. وهذه كلّها تثبت أنّ الصلاة، عند الكثيرين، هي أن يردّدوا كلمات فحسب. وأمّا الصلاة الحقّ، فكلمات قاعدتها الوعي أنّنا، أبناء، والإخوة واحد. هي وجوه. وجوه، وإن تفرّقت، تبقى مجتمعة. وجوه عاشقة، اللهُ فيها وهدفها. وجوه تسير، في وجه الله، باتّجاه وجهه.
لا أريد أن أتكلّم على جروح متعبة. لكن، ما ينبغي لنا أن نحفظه، كما أعيننا، أنّ كلّ مَنْ منحه الله وعيًا مبرورًا مسؤول عن بثّ روح الوعي في الجماعة التي يشاركها في حياتها ومصيرها. وليس ثمّة أعلى قيمةً من أن نوجّه الإخوة نحو الله، ليحيوا من مخاطبته. إن كنّا نعي حقًّا أنّ كلّ أخ حجر حيّ في بناء الله، فهذا يفرض علينا، ولا سيّما إن كان عضوًا جديدًا أو قديمًا سقط في عدم المبالاة، أن ندفعه إلى أن يجدّد قلبه بأن يصلّي إلى الله الذي يحبّه، وينتظره بفرح دائمًا. فأحيانًا، نحن نعتقد أنّ هذه من مسؤوليّة غيرنا. وأحيانًا أخرى، نحن نتصوّر أنّ الإخوة يجب أن يعرفوا، وحدهم، كلّ شيء. وإلى جانب كوننا مسؤولين، كما غيرنا، يبقى دورنا أن نشارك في تعليم بعضنا بعضًا ما ينبغي لنا أن نثبت فيه. هذا ليس من أجل مَنْ يعوزه تعليم فقط، بل، أيضًا، من أجل كلّ مَنْ يعرف أنّ الوعي، متى عمّ، سيناله منه بركات لا تنقضي.
أن نصلّي لهو أن نرفع نفوسنا وإخوتنا جميعًا إلى مَنْ كلُّ رغبته أن يرانا واحدًا في دعاء حلو يبدينا أنّنا فهمنا أنّه جاء، ليخطفنا، منذ الآن، إلى أبدٍ كلُّهُ صلاةٌ وأصواتُ تمجيد.