2مايو

أن نحيا بكلمة الله الآن

         مِنْ ضمن وصايا عدّة في الحياة المسيحيّة، قال الرسول، في رسالته إلى أهل كولوسّي: "لتنزل فيكم كلمة الله وافرةً، لتعلِّموا بعضكم بعضًا وتتبادلوا النصيحة بكلّ حكمة" (3: 16). وهذه الوصيّة أوردها بعد أن حثّ المؤمنين، الذين "قاموا مع المسيح"، على أن يرغبوا في "الأمور التي في العلى، لا في الأمور التي في الأرض"، وبعد أن حضّهم على اقتناء كلّ فضيلة، ولا سيّما لبس "ثوب المحبّة التي هي رباط الكمال" (3: 1- 15).

          تختصر هذه الوصيّة مسؤوليّة المسيحيّين الذين كُلِّفوا أن يحيوا معًا، في كلّ عصر، بموجب كلمة الله. فالربّ، الذي شاء أن نحبّه حبًّا كلّيًّا ونشهد لمجده، وضع لنا الأساس الذي يجب أن نسلك وفقَهُ بعضُنا مع بعض، لنثبت جميعنا في الحقّ. المسيحيّون إخوة. واعتناؤهم بعضهم ببعض واجب مقدّس. وليس من عناية صحيحة إلاّ من الذين "نزلت فيهم كلمة الله وافرة". فبموجب الكلمة، يحيا المؤمنون الآن. وعليها يبنون كلّ كلام وتصرّف هدفه مساندة الإخوة، ليرتبطوا بالله الحيّ، ويذوقوا بركاته في حياتهم، ويرجوها أبدًا.

          أوّل سند للمؤمن، في هذه الوصيّة، هو تعليمه. وهذه مسؤوليّة الكنيسة المفتداة، وتكليف مَنْ أعطي هذه الموهبة في الجماعة. ففي الحياة الكنسيّة، لا يكفي أن يتجمّع الناس بعضهم مع بعض، ليتقرّر ثباتهم. ثباتهم، مجتمعين، رهن بوعيهم. والوعي قاعدته معرفة "فكر المسيح" (1كورنثوس 2: 16) الذي لا يمكن أن يثبت أحد إن أهملَهُ وَنَقْلَهُ. التعليم حصن للمؤمن في هذا الوجود, لأنّه قادر على أن يبيّن مشيئة الله الحقيقيّة، أي أن يكسر الأصنام التي يصطنعها الإنسان لنفسه، ويستريح إليها. والأصنامُ وَهْمٌ. والله هو الحقّ. والتعليم، أيضًا، حصن للمؤمن في زمن كثرت فيه البدع والشيع المتطرّفة التي تشوِّه الحقيقة، وتستغبي الكثيرين. فإذا التزم المؤمن، تبقى دعوتُهُ أن "يذكّي هبة الله التي فيه" (2تيموثاوس 1: 6)، ويحفظ "أصول التعليم"، ويطيعه "بصميم قلبه" (رومية 6: 17)، ليثبت، ويحمي نفسه، وينمو بالحقّ. فمن مقتضيات الالتزام الصحيح، إذًا، هو التعليم. ولا يتلقّى المؤمن تعليمه بعيدًا من كنيسته التي تسلّمت الإيمان تامًّا (يهوذا 3). مَنْ يلتجئ إلى الغرباء ليتعلَّم مثلاً، يفقد نفسه، ويخرج على كنيسته. فالرسول، الذي يعرف أنّ الإنسان قد يهمل كنيسته ويستحلي "المنتفخين من الكبرياء" (1كورنثوس 4: 19)، أوصى: "لتعلِّموا بعضكم بعضًا". وهذا يوجب أن يقبل المؤمن تعليم الجماعة، وأن يبذل جهدًا شخصيًّا، ليعمق فهمه. فالمؤمن لا يتعلَّم على نفسه حصرًا، بل يأخذ من معين كنيسته، ويبني عليه. مَنْ يتعلَّم وحدَهُ، من دون أن يتّكئ على صدر كنيسته ويسمع منها أسرار الأبد ويصادق القدّيسين، معرّض لأن يستسلم لأفكاره وآرائه الشخصيّة التي تزيد من وحدته وغربته. وهذا، أيضًا، يوجب أن تكون للمؤمن، الذي ينهل من معين كنيسته، رغبة في التعليم، وأن يصرف وقتًا في تحصيله. فَمَنْ لا "يتقشّف" (2تيموثاوس 4: 5)، ليزداد فهمه وينمو بالحقّ، معرّض ليبقى التزامه هامشيًّا، ولكلّ وَهْمٍ وتأرجح.

          أمّا السند الثاني، فهو انفتاح المؤمن على إخوته وقبوله نصحهم وإرشادهم. هذا ما أكّده الرسول، بقوله: "وتتبادلوا النصيحة بكل حكمة". وهذا إنّما يعني أنّ هناك نصيحةً حكيمةً، أي من وحي المسيح الذي هو "حكمة الله" (1كورنثوس 1: 24 و30، 2: 6؛ أفسس 1: 18، 3: 10؛ كولوسّي 1: 28، 2: 3، 3: 16)، وهناك نصيحةً غريبةً عن حكمته. المؤمن، إذا صعب عليه أمر أو شرد، شأنه أن يلتجئ إلى الحكماء في كنيسته، أي إلى المؤمنين الذين عمّروا قلوبهم بمحبّة المسيح، ونزلت فيهم "كلمة الله وافرة". "فتّش دائمًا عن الأشخاص القدّيسين، فتريحك كلماتهم" (تعليم الرسل الاثني عشر 4: 2). والنصيحة واجبة، في حال السلامة، وفي غير حال. ولا يمتنع المؤمن عن قبولها، ولو أتته من دون أن يطلبها. فَمَنْ ينخرط في حياة كنيسته، ويفتح قلبه وكيانه كلّه على كلمة الله وتعليم كنيسته، ينتظر، دائمًا، أن يساهم إخوته في نصحه، أي في استقامته ونموّه، أو هذا ما يجب. وهذا، أيضًا، يعني أنّ المؤمنين لا يمتنعون عن نصح بعضهم بعضًا، إذا طلب منهم النصح، أو رأوا أنّ ثمّة ما يفترضه. والنصح الكامل هو الذي يساعد المؤمن على اعتبار كلمة الربّ تخصّه الآن. وهذا لا يمنع التشارك في أمور هذه الحياة. فما دام الإنسان يحيا، في هذه الأرض، يحتاج إلى مَنْ يعينه في غير أمر. فالمسيحيّة، التي تطلب "أمور العلى"، تُعاش من هذه الأرض. وكلّ ما في الأرض مدعوّ إلى أن يلبس حلّة المسيح. النصيحة المتبادلة واجب، أو ضرورة من ضرورات المحبّة التي قال فيها الرسول إنّها "رباط الكمال".

          ما يكمل الآية التي علَّقنا عليها، أي: "رتّلوا لله من صميم قلوبكم شاكرين بمزامير وتسابيح وأناشيد روحيّة"، يكشف لنا سندًا ثالثًا للمؤمن. فالصلاة هي، أيضًا، دعم للجهاد الراجي. وهي تأتي، في هذا السياق، بعد التعليم والنصح، تكليلاً للالتزام الذي لا يكمل من دون تقديم الشكر لله الآب دائمًا "باسم الربّ يسوع" (الآية الـ17).

          مَنْ يرغب في "أمور العلى"، يندرج في حياة كنيسته بوعي، أي يقبل بشارتها وتعليمها ونصحها وصلاتها، ليثبت في الحقّ، ويساهم في نموّ الكنيسة وحسن شهادتها في العالم.

شارك!

جميع الحقوق محفوظة، 2023
Skip to content