20مايو

أن نحبّ

عندما جعل الرسول المحبّة في قلب تعليمه عن مواهب الروح (1كورنثوس 12- 14)، رسم أساس الحياة المسيحيّة التي تجمع أعضاء شعب الله كلّهم معًا إلى الله. إذ ليست المسيحيّة سوى أشخاص يحبّون الله الذي أحبّهم أوّلاً، ويحبّون الناس جميعًا. وكلّ ما هو آخر، مهما سما، يخضع لهذه الحقيقة المحيية التي ما بعدها حقيقة.

دائمًا يلفتني، في الرسالة إلى فيليمون، أنّ الرسول أسبغ صفة "الحبيب" على مَنْ خصّه برسالته وعلى عبده أُونيسِموس في آنٍ واحد. لم يميّز، في إظهاره المحبّة، بين سيّدٍ تقيّ جوّاد فتح دارَهُ لجماعة المؤمنين ليعبدوا الله، وبين عبدٍ أخطأ بحقّ سيّده، وهرب، والتقى به هو في ظروف حرجة، و"ولده في القيود"، أي فيما كان سجينًا. وخير ما يأخذني، في هذه الرسالة الملهبة، أنّ خطيئة أُونيسِموس، التي جعلت بولس يتوسّط من أجله لدى فيليمون سيّده ليردّه إليه، لم تمنع الرسول من أن يقرّبه منه، ويعتني بأمره. فالرسول، كما يجب فهمه، لم يعامل الرجل على أساس ما هو عليه، بل على ما يمكن أن يكونه. لقد قَبِلَهُ. وصيّره بالحبّ "أخًا حبيبًا جدًّا".

هذا يعني لنا، أو يجب أن يعني، قاعدة حياة ملزمة. فالتزامنا الكنسيّ يحبونا، في أيّ موقع كنّا، عن أن تكون لنا قاعدة أخرى. يحبونا عن أن نحابي، عن أن نفضّل "الموجود" في عيني الناس، عن أن ندين أحدًا على زلّة مقدّرة أو ثابتة، عن أن نتصرّف كما يتصرّف الخطأة. وهذا، الذي دعانا إليه يسوع في عظته الكبرى (لوقا 6: 32- 34)، يبيِّن أنّ الربّ يريدنا أن نأتي بجديده المحيي، أي أن نكون مسيحيّين بكلّ ما للكلمة من معنى. لم يقل يسوع، في عظته، عاملوا الناس كما ترونهم يستحقّون، أو أحبّوا الذين يحبّونكم فحسب، بل عاملوهم كما تريدون أن يعاملوكم، وأحبّوا الجميع من دون أيّ تمييز، ولا سيّما الذين يظهرون لكم العداء. وهذا هدفه الواقعيّ أنّ الربّ يريد أن تمرّ مسيحيّتنا بالتصرّف، أي أن يكون تصرّفنا، وليس كلامنا فقط، معبرًا إلى إظهاره.

بلى، في الكنيسة متفلسفون ومزعجون ومرضى روحيّون وأشخاص يختلقون أمورًا ويصدّقونها. ولكنّ شيئًا لا يسمح لنا بأن نرميهم وراء حدود نظرنا، أو خارج قلوبنا. ليس لنا، في أدبنا المسيحيّ وخبرة الأبرار في غير جيل، دواء ناجع لكلّ مرض سوى أن نحبّ دائمًا. وبلى، بلى، المحبّة مكلفة، وأحيانًا مكلفة جدًّا. ولكنّنا، نحن الذين نؤمن بأنّنا "شُفينا بِجُرْحِ" مَنْ رفعته خطايا أهل الأرض على صليب العار، إن أصابنا ممّا أصابه، فشأننا أن نبقى ثابتين على محبّة الإخوة (عبرانيّين 13: 1)، لنرجو أن نحيا وَمَنْ هم معنا وإلينا والعالم كلّه إن أمكن. ليس لنا أن نزرع، في الكنيسة أو في العالم، الحبّ شحيحًا، بل أن نزرع بالبركات. نتمثّل بِمَنْ بدّد نفسه، بِمَنْ ما زال يبدّدها في كلّ موت مجحف، لتبقى الحياةُ نصيبَ العالمين.

أنت تريد أن تحيا، فالمحبّة هي الحياة. عندما منعنا السيّد من أن نكتفي بما يحسبه الخطأة الخير كلّه، كان يريدنا أن نبيّن إيمانًا ثابتًا بأنّ حياتنا إنّما هي به وحده. الفرق الوحيد، بين أيّ خير تنتجه الدنيا وخير مَنْ يدينون بدين المسيح، أنّ المسيحيّين يأتون، في كلّ شيء، من ربّهم. إنّه، وحده، دينهم. ربّما تكون أنت وحدك، في الدنيا أو في الكنيسة التي تحيا في ربوعها، تدين بدين مسيحك. فاعرف أنّ ربّك يكفيك، لتحرّك كفايته مَنْ أضاعوا سواء السبيل. لم تكن المسيحيّة مذهب أكثريّة، ولن تكون في يوم من الأيّام. العدد ليس بشيء. المحبّة هي كلّ شيء. أنت افطن، باستمرار، إلى أنّ دعوتك أن تُخلص لِمَنْ أخلص لك ودّه، ليجعلك، بنعمته، نور العالم، ملح الأرض، خميرة الوجود. اصبر! لن يكون للخطيئة، يومًا، قوّة الحقّ. فأنت لست بشيء إن لم تثق بأنّ الربّ قادر على أن يحوّل البرّيّة إلى بستان والنار إلى ندًى. ليس عند الله مستحيل. المحبّة، المحبّة وحدها، قادرة على أن تقلب المقاييس، وتصنع المعجزات.

ليس هذا كلامًا شعريًّا، أو برسم بعضٍ منّا. لقد سمعنا أنّ ثمّة مَنْ يتأفّفون من أشخاص، في الجماعة، يعتقدون أنّهم يتجاوزون وصيّة الربّ العظمى. يخبرون عنهم أنّهم يميّزون بين الإخوة. يحابون. يضعون للمحبّة شروطهم. وهذا، إن صحّ فعلاً، أمر لا يجوز إهمال الوقوف عنده. بلى! قد يكون بعض الذين تعلو أفواهَهم مثلُ هذه "التهمة المرعبة" لا يحسنون فَهْمَ غيرهم. وبلى، قد يكونون أطفالاً يريدون كلّ شيء لهم. وبلى، قد يكونون يلفّقون، يحيون من "أكل لحم" غيرهم. أي قد يكونون هم لا ينفعون بشيء، ويرمون خطاياهم على غيرهم. ولكن، هل ثمّة من أمر يسمح لنا بأن نهمل طاعة وصيّة الربّ؟ إن كان ثمّة مَنْ هو جائع إلى المحبّة، والجائعون كثيرون، فهل يليق بإيماننا أن نهمله؟ إن وصل إلينا أنّ واحدًا يدّعي أنّنا ننقصه المحبّة، مهما كانت أخلاق هذا الواحد رديئة برأينا، فهل ثمّة من سبيل منقذ سوى أن نعطيه ما يدّعي أنّنا نحجبه عنه، ونشكر لله أنّه دلّنا على نفسه؟ يجب أن نذكر، دائمًا، أنّ إنجيل الدينونة (متّى 25: 31- 46)، الذي يصوّر المحبّة بأجلى بيان، بَيَّنَ لنا أنّ مَنْ أخلصوا لله في حياتهم، وَمَنْ لم يخلصوا، لم يعرفوا أنّ الذين أحبّوهم، أو أنكروا محبّتهم، إنّما كانوا الربّ نفسه. الربّ، في استباقه اليوم الأخير، قال إنّهم هو. وأنت تجيء من هذا الاستباق، فتمسح عن قلبك الصدأ، وتخصّ جميع الناس بثمرة قلبك، لتربح قلبك، وتفرح.

أن نحبّ هو أن نحيا على قاعدة أنّ الربّ أحبّنا فيما كنّا خطأة وغير مستحقّين. وَمَنْ عمّر قلبَهُ حبُّ يسوع، يأخذه أن يحبّ الناس أيًّا كانوا. هذه هي دعوتنا التي زرعها فينا روح الله، ليكون لنا طعم في هذا الوجود، ويرضى علينا الربّ في الوجود الآتي.

- مجلّة النّور
شارك!

اضف رد

جميع الحقوق محفوظة، 2023
Skip to content