12يونيو

أن نتابع الإخوة

            في سياق تحذيره المؤمنين في تسالونيكي من كلّ بِطالة وخلل، قال بولس: "وقد بَلَغَنا أنّ بينكم قومًا يسيرون سيرةً باطلة، ولا شغل لهم سوى أنّهم بكلّ شيء متشاغلون" (الرسالة الثانية 3: 11).

            هذا سجّله بعد أن قدّم لهم نفسه مثالاً في حياة الخير الفاعلة. قال: "فنحن لم نسر بينكم سيرةً باطلة، ولا أكلنا الخبز من أحد مجّانًا، بل عملنا ليل نهار، لئلاّ نُثَقِّل على أحد منكم: لا لأنّه لم يكن لنا حقّ في ذلك، بل لأنّنا أردنا أن نجعل من أنفسنا قدوةً تقتدون بها" (الآيات 7- 9). وتبدو دوافعه إلى قوله الأوّل جليّة. ثمّة، في جماعة تسالونيكي، بعض أشخاص كانوا يستغلّون البشارة السارّة، أشخاص كسالى، عاطلين من العمل، حياتُهم لهوٌ، رأوا الكنيسة مصدر استرزاق! هذا جرحه، واضطرّه إلى توبيخهم علنًا.

            قال: "بَلَغَنا". وهذه اللفظة تدلّ على أنّ غيابه الجسديّ عن الجماعات، التي بشّرها، لا يعني أنّه ليس حاضرًا بروحه (1كورنثوس 5: 3). العمل البشاريّ ليس هواية، بل يفترض متابعةً دائمة، سهرًا في الليل والنهار. لا يسترشد بولس بالمثل القائل: "قلْ كلمتَكَ، وامشِ"، بل يتجاوزه جهارًا. مَنْ يكلّمهم، يُرد خلاصهم. وهذا يلزمه أن يتبع الكلمات، التي ألقاها عليهم جماعاتٍ وفرادى، أن يتبعها في حضوره كما في غيابه. هل تعطينا عبارة "بَلَغَنا" أن نتصوّر أنّ الرسول دسّ قومًا، في الجماعة، يراقبون أهلها في غيابه، ليفسدوا على كلّ مَنْ يرونه يخطئ فيها؟ يعيبنا أن نطرح هذا السؤال الذي يُظهر الجماعات المسيحيّة أوكار جواسيس تفتقد المحبّة الحرّة والناضجة! ولكن، ما دمنا ذكرناه، فيجب أن نجيب عنه بثقةٍ: لا، لا! فهذه العبارة إنّما تدلّ على أنّ الرسول يعي تكليفَهُ. بَلَغَنا، أي أخباركم تهمّني كما حياتي. بَلَغَنا، أي بعض الإخوة، الذين يعرفون أنّني مؤتمن على خلاصكم، أرادوا لكم صحّة الحياة بإعلامي أموركم. بَلَغَنا، أي أنتم في بالي وفي قلبي. وبَلَغَنا، أي أنا حاضر في غيابي، كما في حضوري، لأرى مصير كلمة الله فيكم!

            إلى مصير الكلمة، أقلقه أنّ بعضهم لم يلاحظوا مصير الكلمة فيه، أي أغلقوا عيونهم عنه كما لو أنّ ما عمله أمامهم يخصّه وحده! هل كان الرسول يتباهى بطاعته الكلمة؟ هذا، أيضًا، سؤال لا يليق بنا طرحه! فإنّ بولس علّم الكون أنّ ما من أحد فوق الكلمة. أين علّم هذا؟ بكلّ لفظة لفظها، بكلّ حركة تحرّكها، ودمعة ذرفها، وابتسامة علت ثغره، ولا سيّما بقوله الذي وجّهه إلى كنيسة أخرى، أي: "فنحن أيضًا نؤمن، ولذلك نتكلّم" (2كورنثوس 4: 13). إنّه، بهذا القول التالي، يؤكّد أنّه يتلقّى الكلمة من فوق، أو يقرأ أوضاعه على ضوئها، ثمّ يشهد. يطيع، فيتكلّم. واختار، في كلامه مع التسالونيكيّين، تطبيقًا للكلمة، أنّه كان يعمل ليل نهار، لئلاّ يُثقِّل على أيّ إنسان منهم. هذا نهج تعرفه الجماعات المسيحيّة (1كورنثوس 4: 12). أقلقه، إذًا، أنّ بعضهم لم يتمثّلوا به. ماذا فعل، ليردّهم إلى الحقّ؟ "نبّه ذكرياتهم" (رومية 15: 15). ذكّرهم بأنّه يعمل، ليأكل. على أنّ حقّ الخادم أن يُطعَم (1كورنثوس 9: 7- 14)، "أجهد نفسه في العمل بيديه". قال. وربّما تساءل: من أين أتوا بأفكارهم؟ هل شعر بأنّهم يقتدون بسواه، أي يردّدون ما يقوله آخرون؟ ربّما! هذا لا يمنع من أن يكونوا قد استغرقوا، هم أنفسهم، في تشويه ما استلموه ورأوه. قلق بولس. خاف عليهم، خاف ربّما من معلّمين آخرين، أو ربّما من أنفسهم. وصفعهم بأنّه معلّمهم. صفعهم بتذكيرهم أنّ شأنهم أن يستقوا الطاعة من فمه ووجهه وكلّ ما ينبض فيه.

            إن لم نكن أيقونة ما تعلّمناه، يكنْ كلّ ما نعمله تشاغلاً. لا أعتقد أنّ ثمّة توبيخًا، في العهد الجديد، ردًّا على شرّ البطالة، أقسى من قوله: "ولا شغل لهم سوى أنّهم بكلّ شيء متشاغلون". هذا، (لا بأس إن كرّرنا)، يؤكّد أنّه حاضر في دقائق حياتهم. ماذا أراد بوصفهم متشاغلين؟ أراد أنّهم يتجاوزون طاعة الحقّ بأمور لا يطلبها الحقّ. وماذا يطلب الحقّ؟ أن نمتنع عن أن نكذب عينًا بعين، أي عن أن "نسير سيرةً باطلةً"، أي أن نوهم أنفسنا أنّ الله راضٍ عن فراغنا! هل رأى خطأهم، ورماهم من عينيه؟ لو فعل، لَمَا كان أصرّ على توبيخهم. وبّخهم إذًا، أي أرادهم أن يعودوا إلى خطّ خلاصهم. هذا شأن المعلّم. شأنه ألاّ يندهش بالطائعين اندهاشًا ينسيه أنّه مسؤول عن كلّ مصاب بخلل. شأنه أن يصرف حياته في سبيل مَنْ يحتاجون إليه، الآن. هذا دليل كامل على أنّه أمّهم وأبوهم (1تسالونيكي 2: 8؛ 2كورنثوس 6: 13). المعلّم أمٌّ، أبٌ، أي إن شعر بأنّ أحد أولاده مريض، يترك الدنيا، ليقعد إليه وحده. لا تظهر الآيات، التي نطقها، أنّه بكى فيما كان يقولها. ولكنّنا نحبّ أن نعتقد أنّه بكى. ليس من أب حقيقيّ، في الكون، لا يبكيه ضياع أولاده! ليس من أب حقيقيّ لا تعنيه رجعة أولاده. كلّ كلامه رجاء، ضياء، ليتركوا الزيف، ويعودوا إلى الحقّ. قسا! أجل، قسا! بعض الأورام يعوزها استئصال. قسا، استعمل مبضعه، جَرَحَ، إنّما ليشفي.

            لا تستقيم الحياة الكنسيّة من دون أن نتابع بعضنا بعضًا. بولس استطاع أن يعرف خطأً تغلّل في ثنايا بعض قرّائه. وقاله. ووبّخ عليه. وربّما قيمة هذا التوبيخ أنّه قد أُطلق. هل شعر بأنّ مَنْ وبّخهم لمّا يفقدوا كلّ شيء؟ قيمة الإنسان أن يبقى قابلاً للإصلاح. أريد أن أعتقد أنّ أهل تسالونيكي، ولا سيّما مَنْ قصدهم بولس في توبيخه، كانوا لم يفقدوا طراوتهم كلّها. أن نخطئ، ليس هو كلّ شيء. فكلّ شيء، كلّ شيء، أن نعلو على كلمة النصح. هذا برّنا أن نبقى نرتضي الإخوة متى تكرّموا علينا بالنصح!

شارك!

جميع الحقوق محفوظة، 2023
Skip to content