بِمَ رأى يوحنّا المعمدان أنّ يسوع هو أقوى منه (متّى 3: 11)؟
كان يوحنّا يكرز "بمعموديّة التوبة". واستشرف أنّ الآتي بعده "سيعمّد بالروح القدس والنار". إنّهما، إذًا، أمران تدلّ وحدتهما المحكمة على قوّة الربّ الآتي: معموديّة الروح القدس والنار. وهذا فهمُهُ يفرض علينا أن نغامر، بادئ ذي بدء، في محاولة الدخول في رائعة معنى رسالة المعمدان.
إذا قرأنا النصوص الإنجيليّة التي ذُكر يوحنّا فيها، نعرف، من دون جهد، أنّ مدى رسالة الرجل ماءٌ وبرّيّة. كانت دعوته الناس، في البرّيّة، إلى أن يتوبوا، ويغتسلوا من خطاياهم بماء يجري في الأردنّ. وهذا ما عناه كتابنا بقوله عنه إنّه "صوت صارخ في البرّيّة"، أي في برّيّة نهر الأردنّ. ورؤي يلبس ويأكل من مداه. كانت حياته ارتقابًا لِمَنْ قال إنّه سيأتي بعده. قوّته تكشّفت في ما كُلِّف أن يقوله، وكان يحيا بموجبه. إنّه الصوت الذي أُعطي أن يدرك، في عمق أعماقه، أنّ الناس يسمعون الكلمة في آذانهم وعيونهم. الكلمة، إن لم تُرَ عيانًا، فمن الممكن أن تصل إلى الآذان، وتسقط قَبْلَ أن تدخلها! لم يمثّل الطاعة إذًا، أي طاعة ما تتضمّنه رسالته، بل كان هو، شخصيًّا، رسالته. بدا فقيرًا إلى الله وإلى أن يتوب الناس إلى الله في آن. الكلمة، لتمشي حقًّا، تطلب فقرًا نختاره، أحرارًا، ما بين ماء وبرّيّة! وربّما، أو من دون ربّما، هذا ما جعل الناس يأتون إليه من كلّ حدب وصوب. سمعوه، ورأوا ما يبلّغه يصرخ في اختياره حياةً وضيعة. فزحفوا إليه جميعهم، وأحنوا له رقابهم. سحرتهم قوّة الطاعة التي كانت تزيّنه، وخطفتهم إليها.
ثمّ كانت قوّته امّحاءً كلّيًّا أمام إله أرسله، لـ"يسير أمامه". وهذا أقرّ به يوحنّا علنًا. قال عن الآتي: إنّه "أقوى منّي". و"لستُ أهلاً لأن أخلع له نعليه". و"يأتي بعدي رجل قد تقدّمني / لأنّه كان من قبلي" (يوحنّا 1: 30). وأعلن إثر جدال جرى بين تلاميذه وأحد اليهود في شأن الطهارة: "لا بدّ له (يسوع) من أن يكبر / ولا بدّ لي من أن أصغر / إنّ الذي يأتي من علُ هو فوق كلّ شيء / والذي من الأرض هو أرضيّ / يتكلّم بكلام أهل الأرض" (يوحنّا 3: 30 و31). هل هذه إثارة نبويّة، أي تشويق أراد منه المعمدان أن يجذب الناس إليه؟ لا، بل هي إعلان واعٍ أنّ خادم الرسالة إنّما هو مَنْ يخدم الحقَّ في سبيل مجد مَنْ أرسله. أظهر يوحنّا أنّه لا يستحقّ شيئًا أمام مَنْ يستحقّ، وحده، كلّ شيء. لم يرد أن يتواضع شكليًّا، بل أن يعبّر، بواقعيّة بليغة، عن إيمان عميق تأصّل في داخله. ارتضى أن يمحو ذاته كلّيًّا، أي أن ينقص هو دائمًا، ليزيد يسوع دائمًا. قوّة النبيّ أن يعرف حدّه حقًّا. هذا يطلق رسالته إلى غير مدًى!
أمّا قوّة السيّد، فقال المعمدان، في وصفها، إنّه "سيعمّد بالروح القدس والنار". أوّلاً، تبيّن هذه القوّة أنّ يسوع هو الإله الحقّ الذي يعطي ما لا قدرة للبشر على إعطائه. كلّ رسالة الأنبياء القدماء كان هدفها أن تقودنا إلى الربّ يسوع المعطي. "يعمّد بالروح القدس"، قال. قَابَلَ ما بين معموديّته، التي هي معموديّة بالماء فحسب، وبين معموديّة الآتي التي هي معموديّة "بالماء والروح". وبقوله "يعمّد بالروح"، تنبّأ بأنّ الربّ لن يعطي الروح بمنطق عهد قديم، أي الروح الذي كان يظهر حينًا ويحتجب حينًا، بل إنّما سيجعله قائمًا في مَنْ يقبلونه أبدًا. مِنْ صميم قوّة الآتي إذًا، أنّ عطيّته تدوم إلى الأبد. وهذا يخصّ الله على الإطلاق. ولئلاّ يفهم أحد أنّ عطاء الله سيلتصق بإنساننا العتيق، أكمل: والنار. وهذا يعني شيئين. أوّلهما أنّ النار تزيل العتيق، ليقيم الروحُ القدس إنسانَنا الجديد "الذي يُجدَّد على صورة خالقه" (كولوسّي 3: 10). وثانيهما أنّ النار، صورةً عن دينونة الله الأخيرة، تدلّ على أنّنا في زمان النهاية الذي ما بعده زمان. فقوّة السيّد، إذًا، أنّه، هو نفسه، هو وحده، آخر قول لله في هذا العالم. "ها هي الفأس على أصول الشجر" (متّى 3: 10). الآن، آن أوان الرجوع إلى الله في المسيح الذي هو سبيل نجاتنا الوحيد.
هذا كلّه من حنان الله. يوحنّا، ومعنى اسمه الله يحنّ، كانت رسالته تمهيدًا لإبراز حنان الله، لـ"نعبده غير خائفين بالتقوى والبرّ" (لوقا 1: 74). هذا ما قاله والدُهُ، زكريّا، يوم مولده، وأضاف فيه: "وتُعلِّم (يوحنّا) شعبَهُ الخلاصَ بغفران خطاياهم / تلك رحمةٌ من حنان إلهنا / بها افتقدنا المشرق من العُلى / فقد ظهر للمقيمين في الظلمة وظلال الموت / ليسدّد خطانا لسبيل السلام" (1: 77- 79). لقد جاء يوحنّا يدعونا إلى أن نتبع الكلمة القويّ في خلاصه وغفرانه ورحمة حنانه. فالربّ قويّ بما فيه من حنان، أي طاقة عطف جديد وحبّ أبويّ قادر على أن يحوّل كلّ برّيّة إلى جنّة ريّا، وكلّ موت إلى حياة. هذه الكلمات، التي شغلتنا هنا (سيعمّدكم بالروح القدس والنار)، لا تعني، إذًا، أنّ الآتي سيردّ، بقسوة، على أناس قست قلوبهم ورقابهم، هذا يخالف قوّة الله الذي لا يرتضي أن يردّ الناس إليه رغمًا منهم، بل تعني أنّه القدير على تطهير الكون من كلّ إثم وتصلُّب بلطفه وإنعامات روحه. فالنار، التي تبيد، تطهّر الآن!
لم نشأ، في هذه المساهمة العجلة، أن نخفي أنّ النبيّ، أيّ نبيّ، شأنه ألاّ يمزح في أمور الله، وأن ينقل، بجدّيّة لا تحتمل تهاونًا، المشيئة المخلِّصة، بل أن نتبع الذي دعانا إلى أن ننحني أمام الآتي كما أراد أن يأتي. هذا ليس فصلاً ما بين الصوت والكلمة، بل هذا شأن الله الواحد الذي أرسل مَنْ يدلّنا على يسوع، ومعنى اسمه الله يخلّص، الحامل إلينا قوّته، لنستبق النار الأخيرة بقبوله حياتَنا ومجدَنا (كولوسّي 3: 4).