سمعتُ وصديقي وقع قدمَيْن انتظرناهما منذ أن صالح صاحبهما أرضنا. فنحن أعميان. ولكنّ آذاننا، صحيحةً، تعوّضنا من النظر قليلاً، وتربطنا بالعالم وبما يحدث فيه. لا نبالغ إن قلنا إنّ أخبار مَن سمعنا وقعَ قدميه قد ملأت بالفرح دنيانا. قيل لنا الكثير عن قدرته على صنع المعجزات. لم يُذكر لنا أنّه شفى أعمى من قبل. لكنّ ما ذُكر كان كافيًا، ليضرب كلٌّ منّا عكّازه في الأرض، ونتبعه صائحَيْن: "رحماك، يا ابن داود". بقي هو يمشي. وبقينا نحن وراءه. كنّا نعرف أنّه يحبّ الملِحِّين (متّى 9: 27- 35)!
إلى أين وصل بنا؟ من دون أن ننسى قدميه، وقعَ قدميه، لم يكن صعبًا علينا أن نعرف! فنحن، طبيعيًّا، نحفظ مدينتنا شارعًا شارعًا، زقاقًا زقاقًا، وبيتًا بيتًا. عكّاز كلٍّ منّا عيناه على الطرقات وفي الأزقّة. وأيدينا بنت لمساتُها صداقةً واثقةً بينها وبين كلّ جدار، في مدينتنا، وباب وبيت. وكيف إن كنّا نتبع وقعًا انتظرناه طويلاً، وقعًا يشدّنا إليه؟! لم يصعب علينا، إذًا، أن نعلم أنّ يسوع قد "دخل البيت". ودخلنا، صديقي وأنا، وراءه، من دون أيّ خجل، من دون أيّ تلكّؤ، كما لو أنّ كلاًّ منّا يدخل بيته. حاجتنا الملحّة إليه دفعتنا إلى أن نقبل ضيافته من دون أن نسمعه يدعونا! في البيت، دنونا إليه. وأتانا صوته يقول لنا بثقة سمعنا عنها مرارًا: "أتؤمنان بأنّني قادر على ذلك؟". كان وجهانا إليه، ورددنا الثقة بالثقة. قلنا بصوت واحد: "نعم، يا ربّ". لم نحتج إلى سوى هذا الاعتراف الصادق. ولمس أعيننا بيده. لم نشعر بأنّه أراد أن يتفحّص صدقنا، أو أن يعرفنا عن قرب. أن يُعرف الناس من لمس وجوهم، هذا أسلوبنا نحن العميان! وأعقب اللمسة، التي رسمت على وجهَيْنا خطوط ودِّهِ، بقوله: "كإيمانكما فليكن لكما". فانفتحت أعيننا فورًا. لم يترك لنا أن نشكر له ما فعله لنا، بل بادرَنا، أيضًا فورًا، بانتهاره إيّانا بقوله: "لا يعلم أحد"!
حيّرنا هذا الانتهار الذي تأخّرنا عن التزامه! لم ننتظر أن يرانا الناس، مَن يعرفوننا منهم ومَن لا يعرفوننا، ويسألوننا عمّا جرى لنا، كيف انفتحت أعيننا! خرجنا من البيت الذي كنّا فيه، وأخذنا نشهره في أرضنا كلّها. كان الخبر يخرج من فموينا (فمي وفم صديقي) من ذاته، من دون إذن! يغافلنا، ويخرج! فما حدث لنا، كان أقوى من أن نخفيه! ولكنّ انتهاره إيّانا عاد إلينا يحضّنا على أن نصالحه! فيسوع لم يُردنا أن نُعلم أيَّ أحد. ونحن خالفناه! لِمَ لم يُرد؟ هل تواضعه دفعه إلى أن يمنعنا من البوح بما جرى لنا؟ هل رآنا غير كفوئَين؟ هل رأى أنّ إيماننا ناقص؟ لقد شفانا على وقع اعترافنا، علنًا، بإيماننا به. كان يعرف أنّنا، ولو لم نتكلّم، فعيوننا المبصرة ستشهره من ذاتها! هل نخفي عيوننا، ونمشي؟ هل يجوز؟! وغرقنا في حيرة دفعتنا إلى أن نسترجع صمتنا! وعلى ذلك، صعب علينا، حينئذٍ، أن نثبت على نيّة. وبقينا حائرَيْن!
خرجنا من البيت الذي كنّا فيه، وأخذنا نشهره في أرضنا كلّها.
ثمّ زاد على حيرتنا أنّنا علمنا أنّهم، بعد خروجنا، "قدّموا إليه أخرس به شيطان"، وشفاه. وسمعنا ما قاله الناس تعليقًا على شفائه. قالوا: "لم يظهر قطّ مثلُ هذا في إسرائيل". وكانوا صادقين. قالوا ما قلناه. وأغضبَنا أنّ بعض الفرّيسيّين اتّهموه بقولهم عنه إنّه: "برئيس الشياطين يُخرج الشياطين". هذا كلام حاقدين! لا، ليس هذا ما جعلنا نحار، بل أنّه شفى أخرس بعد أن طلب منّا أن نصمت! ذاك شفاه من دون أن ينتهره كما انتهرنا. لم يطلب منه أن يصمت. لِمَ منعني وصديقي؟ لو كان يأبى على الناس أن يتكلّموا على كَرَمِهِ، كان واجبًا أن يترك الأخر على علّته! هل كان تقديم الأخرس إليه بعدنا مصادفة؟ لا نعلم! لا نظنّ! هل أرادنا أن نرى فقط، وأراده، وحده، أن يتكلّم؟ لا نعلم! لكنّنا، صديقي وأنا، كنّا قادرين على الكلام. وتكلّمنا. آمنّا، وتكلّمنا! لم يمرّ ببالنا، حينئذٍ، أنّ المرء ينبغي له أن يراه، ليتكلّم (أي أنّ ما جرى لنا ولِمَن كان أخرس أمران يفترض أحدهما الآخر). لكن، لِمَ لا يكون قد فعل ما فعله بترتيب كما لو أنّه يقول: الرائيّ هو مَن يتكلّم وحده؟! هل أعاد إلينا البصر ولم يعد البصيرة؟ لم نسمع، يومًا، أنّه شفى بعضًا من الإنسان، بل الإنسان كلّه؟! وإذًا، لِمَ أمرُ الصمت؟
كان علينا أن نعرف. كان علينا أن نبدّد حيرتنا. ورجعنا إلى ما جرى. إن كان هو مَن انتهرنا، فيجب أن يكون الجواب في ما جرى! رجعنا، إذًا. رجعنا إلى الطريق وإلى صياحنا والبيت وسؤاله واعتراف إيماننا ولمسته وكلماته. وأدركْنا جوابًا أقنعَنا! فنحن، على الطريق، ناديناه بـ"يا ابن داود". وأدخلنا البيت. كان كما لو أنّه لا يريد أن يسمعنا أحد! وشفانا. وانتهرنا، لنصمت. ما اعتبرناه جوابًا أنّ ابن دواد، المسيح المنتظر، بات هنا. ولكن، لِمَ أرادنا أن نخفي أمره؟ هل أرادنا أن نستكين إلى ما جرى قَبْلاً؟ هل أراد أن يسكن نداءنا أعماقنا قَبْلاً؟ إنّه لفاعل! أو هل كان يريد أن يستكمل ما بدا، في البيت، واضحًا لنا؟ يبدو أنّ ليسوع تدبيره الذي دفعنا حماسنا إلى أن نسرع في تجاوزه! وإذًا، نحن لم ننتظر اكتمال تدبيره! الآن فهمنا! هل سيسامحنا؟ كان علينا أن نطيعه؟ هل سيسامحنا؟ كيف يمكننا أن ننتظر؟ وإلى متى؟ ما هي العلامة الساطعة التي ينتظر إعلانها؟ شفانا، وشفى ذاك الأخرس، وشفى كثيرين. متى يحقّ لنا أن نعود إلى إعلان إيماننا. متى الساعة؟ متى النهاية التي ستطلق البداءة، وترمينا على البوح الموافق!
"كان يسوع يطوف المدن والقرى يعلّم في مجامعهم، ويكرز ببشارة الملكوت، ويشفي كلّ مرض وكلّ ضعف في الشعب". وكنّا نحن ننتظر "الساعة"، لنكتب على صفحات الأرض أنّ الله صالحنا مجّانًا!