على مدخل مدينتي أريحا، كعادتي في كلّ يوم، "كنتُ جالسًا على جانب الطريق أستعطي". هذه مهنتي التي رماني دهري عليها. وفي مدينتي، الناس يعرفونني كلّهم، من كبيرهم إلى صغيرهم. منهم مَنْ يتكرّمون عليَّ. ومنهم، ليتحنّنوا عليَّ، يقتطعون من لحم عوزهم. ومنهم يمرّون من قربي كما لو أنّني غير موجود. أنا لا أعظّم نفسي، ولا أشكو أحدًا. أنا، والحمد لله، مكتفٍ. المال لم يكن مشكلتي يومًا. مشكلتي، مشكلتي الوحيدة، أنّني كفيف. أنا نزيل ظلمة تشعرني كما لو أنّني في جهنّم. مَنْ يخرجني من جهنّمي؟
سمعتُ بأنّ رجلاً من الناصرة، اسمه يسوع، "وهب البصر لعميان كثيرين" (لوقا 7: 21). أنا، يوم فعل، لم أكن هناك. وصل إليَّ الخبر، وصدّقتُهُ. بديع هذا الرجل. قدرته مدهشة. أخباره مدهشة. أحبّ أن ألتقي به! مذ سمعتُ بما فعله، زاد حبّي لأن ألتقي به. بات صديق أفكاري. ولا أبالغ إن قلت غدوتُ أفتّش كلّ صوت يعبر بي، واستفسره عن ذاته. مجنون؟ عاد لا يهمّني أن يُقال عنّي: مجنون. ثمّة مَنْ قالها، أعرف! ما يهمّني، أو كلّ ما بات يهمّني، ألاّ يعبر يسوع بي من دون أن أستوقفه، وأرجوه أن يرحمني. ليس لي، في هذه الحياة، طلب آخر. فهل من الممكن، يا تُرى، أن تعطيني الأيّام أن يراني (لوقا 18: 35- 43)؟
بين أفكاري التي كانت تغازل ذكره ورنين النقد الذي يضعه الناس في كفّي وأمامي، انفتحت أذناي على صوت جمعٍ كان يمرّ قربي. جمع أثارني. لم يكن عاديًّا. أصوات المارّة أنبأتني بأنّ ثمّة أمرًا خاصًّا يحدث. كانت تصدر من غير جهة كما لو أنّ مطلقيها يلفّون شخصًا مهمًّا! أسرعتُ، وسألتُ أحدهم عمّا يجري. وأتاني جوابًا أنّ يسوع (صديقي) هنا! لم أوفّر صوتي الذي صقله الاستعطاء، وأعطاه قوّةً عجيبة. هذا هو! هذا مَنْ أنتظره أنا! اعذروني جميعكم! احملوا صوتي! نادوا معي: "يا يسوع ابن داود، ارحمني"!
سمعتني السماء والأرض. لكنّ بعض المارّة لم يعجبهم صوتي. وزجروني، لأسكت. إن قلتُ إنّهم جرحوني في قلبي، لا أعبّر عن كلّ ما أصابني! لِمَ زجروني؟ هل لم يعرفوني؟ هل عرفوني؟! هل يعتقدون أنّني، ضريرًا، أهين احتفاءهم بالضيف؟ مَنْ قال إنّ يسوع ضيفهم وحدهم؟ مَنْ قال إنّه لا يكلّم الذين مثلي؟ ألم يسمعوا بأخباره؟ كيف يفهمون أنّه شفى عميانًا كثيرين؟ ألا يعني هذا أنّه يخصّنا بودّه؟ لا، لن أصمت. يتحدّونني! يحسبونني، أعمى، أدنى منهم. أنا إنسان مثلهم. أنا لن أقبل أن أستسلم. لي معه شيء يخصّني! أريد أن أشفى. فكّرت في هذا. ومن جديد، صحتُ بأعلى صوتي: "يا ابن داود، ارحمني".
هدأ الطريق. يبدو أنّ إلحاحي أعجبه! وأتاني صوت رقيق يأمرهم بأن يأتوا بي إليه. انتصرت! ساعدني أو لم يفعل، شفاني أو تركني على حالي، انتصرت! أنا كنتُ واثقًا بأنّه سيردّ عليَّ! هم لا يعرفون كلّ ما أعرفه! يتوهّمون! يمشون معه خارجيًّا. يتبجّحون بقربهم منه! أنا لا أدينهم، بل أصفهم، بل أساعدهم! ها قد أمرهم بأن يقرّبوني منه. وهذه أوّل خدمة أسديتُها إليهم! فليتعرّفوا إليه جيّدًا. ما سمعتُهُ عنه، يجعلني أعرفه جيّدًا! إنّه ليس مثل أولئك الناس الذين تجعلهم الجمهرة ينتفخون كما لو أنّهم طواويس! وأعتقد، جازمًا، أنّه يعرفني أيضًا. أنا، لو كانوا يصدّقونني، لقلتُ إنّني كنتُ أردّ عليه. لقد مرّ من قربي، وكلّمني في قلبي. هل يتحدّون قدرة العميان على الإصغاء؟ نحن العميان آذانٌ كلُّنا! أنا سمعتُهُ يناديني. وأنا، مهذّبًا، رددتُ عليه! طلبتُ إليه أن يرحمني. إنّه الرحيم. وأنا، أنا أحتاج إلى الرحمة.
لمّا بتُّ قربه، سألني بصوته عينه: "ماذا تريد أن أصنع لك؟". هل سمعتُم ما قاله؟ كدتُ أصرخ في مَنْ انتهروني، وأرادوني أن أسكت: "هل سمعتُم ما قاله لي؟ يريد أن يصنع لي ما أريد"! ولكنّني، كُرمى له، لم أشأ أن أؤخّر جوابي. فيسوع كلّمني، ولا يليق بي أن أخاطب أحدًا قَبْلَهُ. فقلتُ له من فوري: "يا ربّ، أن أبصر". وردّ عليَّ من فوره أيضًا: "أبصر". وأضاف: "إيمانك قد خلّصك". وفي الحال، أبصرت. وتبعتُهُ أمجّد الله. وكلّ الناس، الذين زجروني والذين كانوا يراقبون ما جرى لي، "إذ رأوا، سبّحوا الله"!
ما كنتُ أنتظره، تحقّق لي. كنتُ واثقًا به قَبْلَ أن ألتقيه. يسوع، مخلّصي، هو أخباره التي تنبئ بصوته وعطاياه. لو لم أستقبل أخباره أوّلاً، لربّما كنتُ بقيتُ كما أنا! أقول ربّما فيما أنقل ما اختبرته شخصيًّا! أنا رجل كفيف كرّمني يسوع بأن أعطاني طلبي. هذه نعمة غالية على قلبي، بل أغلى من قلبي. ولكنّني، إن أردتُ أن أصف ما جري لي بتدقيق، لبقيتُ أقول إنّ سرّه يكمن في أخباره. كلّ مَنْ يريده، عليه أن يقتصّ أخباره. أخباره هي التي تأتي به إلينا. هذه الأخبار، إن فتحنا لها قلوبنا، قادرة على أن تطمئننا، وتبعد عنّا كلّ صوت يريد أن يوهمنا أنّه، بعيدًا، لن يردّ علينا. أجل، سرّه في أخباره! أنا ثقتي كبيرة بأنّ الصداقات، التي بنيت معه على أساس ما نُقل عنه، كثيرة كثيرة؟ أنا صادقتُهُ قَبْلَ أن ألتقي به. إنّني مَثل حيّ عمّا أقوله. لن أعود إلى الاستعطاء، بل سأتكرّم على الناس بـ"ثروتي"! لن أترك الطرقات، بل سأقف، في غير طريق، أنادي، وأنقد الناس ما عندي. سأنقل أخباره. سأستعطي منه، وأوزّع. أن أُحبّ الناس، لهو أن أخبرهم عنه. إنّه الغنى الحقّ والمحبّة الكاملة. أنا قلتُ، قَبْلَ أن ألتقي به، إنّني كنتُ أعرفه، وعنيتُ أنّني رأيتُهُ! أنا أعمى رأيتُهُ! كوّنتْ أخبارُهُ لي صورةً عنه. وعندما شفاني، رأيتُ الشخص عينه الذي سمعتُ عنه. هذه خبرتي! وهذا ما سأقوله لكلّ المبصرين والذين يعتقدون أنّهم مبصرون!